في الانفصال.. حياة!

إيناس ونوس:

حين وضعت يدها بيده ليسيرا في طريقهما الجديد، كانت ترى نفسيهما عجوزين يتعكَّزان أحدهما على الآخر، يظلِّلهما دفء أولادهما وأحفادهما.

حين اختارها من بين الفتيات اللواتي يعرفهن، كان يرسم مستقبلهما وبيتهما وحياتهما القادمة في مخيِّلته، ساعياً لأن تكون له الأم والأخت والحبيبة ورفيقة الدرب، كما سيكون هو لها كذلك.

لم يخطر في بال أيٍّ منهما أنَّ نهاية هذا الطَّريق ستكون أقرب من أن يتحقَّق حلمٌ واحدٌ ممَّا كانا يحلمان به معاً، لا هما أصبحا عجوزين، ولا المستقبل تمكَّن من أن يجمعهما كما خطَّطا!!

وصلت علاقتهما نهايتها، واتَّفقا معاً على أن تبتعد أصابعهما وأن يفترقا بشكلٍ حضاريٍّ كما كانت حينما تشابكت فيما سبق، غير أنَّ المجتمع والعائلة والأصدقاء كانوا لهما بالمرصاد، ففكرة النِّهاية لم ترق لأحد، وبدأ كلٌّ منهما يسمع من هنا ومن هناك:

  • ماذا يقول عنك الناس؟
  • أن تكوني مطلَّقة فهو العيب الأكبر.
  • كيف نخفي وجوهنا من أقاربنا؟
  • من سيقبل بك مرة أخرى زوجاً/ةً؟

والعديد العديد من الاستفسارات التي تربَّى عليها المجتمع، وكأنَّهما يقدمان على أكبر مصيبةٍ في تاريخ البشرية بأسرها، ما جعل أحدهما يتقهقر أمام هذا السَّيل من الرَّفض ويبادر لطرح فكرة أن يحاولا مجدَّداً، وما كان على الآخر إلَّا الإذعان للجميع، وما هي إلّا فترةٌ بسيطةٌ حتى عادت الحياة المشتركة بينهما لاستحالتها، وعادا لطرح فكرة الانفصال ثانية، غير أنَّهما لم يتشاركاها مع أحد هذه المرة، فذهبا إلى المحكمة الشرعية ففوجئا بالقاضي يمنحهما مهلةً زمنيةً علَّ وعسى، بالرَّغم من كلِّ محاولاتهما لشرح استحالة المحاولة للمرَّة الثَّانية!!

وأيضاً تمَّ إجبارهما هذه المرَّة بقوَّة القانون على أن يكونا معاً، ولم يخطر ببال أحدٍ البتة أنَّ كلَّ تلك المحاولات لم تؤدِّ إلَّا إلى المزيد من إصرارهما على ما قرَّراه، وبعد انقضاء المهلة تلك، أخذت الأمور القانونية تسير بمجراها الطَّبيعي الذي كان عليها أن تسيره منذ البداية، ببطءٍ وقلقٍ وتحفُّزٍ وتعبٍ من مواجهة المحيط العامِّ الذي لا يزال رافضاً، إلى أن أقرَّت المحكمة قرارها بالموافقة على انفصالهما بعد مضيِّ ما يقارب السَّنة، هذه السَّنة التي لم يحسبها لا القانون ولا المجتمع ولا أيٌّ من الرَّافضين على أنَّها من عمر كلٍّ منهما، ومن حقِّه وحده أن يحياها كما يريد.

وأثناء كلَّ ذلك، صارت تتناهى إلى مسامعهما قصص شتَّى عن المطلَّقين والمطلَّقات، ووجهة نظر المجتمع الرَّافضة بالقطع لهذه الحالة، إضافةً إلى الهمس من قبل من نصَّبوا أنفسهم وكلاء على الأخلاق، ونظراتٍ لم تخلُ من التَّشكيك بأخلاقياتهما وتصويرهما على أنَّهما مثار للعيب الاجتماعي مترافقاً بالقلق من أن يسرق أحدهما شريكاً/ةً ما، أو الخوف على أنفسهم/نَّ وعلى شركائهم/نَّ أن يتَّخذوا منهما مثالاً يحتذى.

لم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدّْ، بل تبلور أمام ناظريهما التَّباين بين الأديان في مجتمعنا بما يخصُّ هذا الموضوع، بين تشريعٍ يسمح بالطَّلاق واصماً إيَّاه بأنَّه أبغض الحلال إلى الله لكنَّه الحلُّ الأخير على مبدأ آخر العلاج الكيّْ، وتشريعٍ يمنع الطَّلاق منعاً قطعياً فارضاً على الطَّرفين البقاء معاً بغضِّ النَّظر عن عدم توافقهما في العيش معاً، أو تشريعٍ يسمح بالطَّلاق إنَّما بعد هجرٍ لعدَّة سنواتٍ، وبعد أن تكون حياة كلٍّ منهما قد وئدت بشكلٍ أشبه بالتَّام.

غير أنَّ كلَّ ما سبق لم يوقفهما عن المضيِّ بتلك الخطوة التي اتَّفقا على القيام بها، احتراماً كلٌّ منهما لذاته أولاً وللآخر ثانياً، وللأيام التي جمعتهما معاً، ضاربين بعرض الحائط كلَّ ما سمعاه، يحدوهما الإصرار على أنَّ الطَّلاق لم يكن يوماً جريمةً لا تغتفر، وليس أسوأ من العيش تحت الإكراه بذريعةٍ من هنا وحجَّةٍ من هناك، فهما وحدهما القادران على تحديد ما عليهما عيشه، وهما وحدهما يؤكِّدان على أن تسمية مطلَّق/ة لا يمكن لها أن تقف في وجه تطوير شخصية وحياة من أطلقت عليه/ا، بل إنَّه الحلُّ الأمثل في بعض الحالات لاسيَّما بوجود الأطفال، فأن يحيوا بين أبوين منفصلين لكنَّهما قادرين على تحمُّل مسؤولياتهما كمربين أفضل بكثيرٍ من أن يعيشوا الخلافات اليومية والمشاكل التي من شأنها وبالضرورة أن تنعكس سلباً على نفسياتهم وشخصياتهم في المستقبل إن لم يكن في وقتها.

وفعلاً.. استطاع الاثنان أن يجسِّدا أفضل مثالٍ على الإطلاق بين أقرانهما من الرَّافضين للانفصال، فهما أبٌ وأمٌّ بكلِّ ما تعنيه هاتان الكلمتان من معنى، إضافةً إلى كونهما قد أصبحا أشبه بالأصدقاء في تعاملهما مع بعضهما ومع من حولهما، كما أن كلاً منهما استطاع أن يرسم لحياته نمطاً يتناسب مع طموحاته وأفقه وأحلامه، فباتا وبجدارةٍ مضرب المثل في محيطهما، بعد أن جابها في البداية مجتمعاً كاملاً بعقليته المتعفِّنة والتي لا ترى الأمر إلَّا من الجوانب التي تناسبه فقط، ومن ثمَّ مؤسَّساتٍ دينيةٍ ضاربةً جذورها في أعماق النُّفوس لتحقِّق السَّيطرة التي سعت لها على مدى قرون وقرون.

العدد 1105 - 01/5/2024