ماكيافيللي وابن خلدون.. مقارنة تاريخية فكرية

يونس صالح:

إن الاطلاع على أفكار ماكيافيللي في عالم الفكر السياسي، وفي مجال التحليل التاريخي، تفرض علينا مقارنتها بأفكار المؤرخ العربي ابن خلدون، على الرغم من التباين في الفترة الزمنية والاختلاف في القيم الحضارية.

إن الدارس لفكر الرجلين، والباحث في مساهمتيهم في تطور الفكر التاريخي يلاحظ أوجه تشابه كثيرة بين ماكيافيللي (1468-1527م) وابن خلدون (1322-1406م) تدفع المرء إلى التساؤل عن مدى اطلاع الأول على آراء الثاني.

إن القارئ المتأني لمقدمة ابن خلدون، والمتتبع لما كتبه ماكيافيللي في كتابيه (المطارحات) و(الأمير)، يلاحظ توارد الأفكار وتشابه المواقف والأحكام بين الرجلين، وتبدو أوجه التشابه وتماثل المواقف والأفكار بينهما إلى تأثرهما بمكونات ذاتية وظروف محلية وتجارب شخصية متقاربة إلى حد كبير جعلت مواقفهما متشابهة في قضايا التاريخ وواقع المجتمع ومسائل السلطة، فقد عبّر كلاهما عن المزاج والسلوك الذي طبع عصريهما، كما أن كليهما اكتسب في إطار مجتمعه ومعطيات عصره تجربة غنية في الحياة، فضلاً عن أن الرجلين خبرا تقلبات السياسة وطبيعة السلطة، وتأثرا بالانقسام السياسي والتطور الاجتماعي وتنافس الحكام ومؤامرات البلاطات.

إن حلقة الوصل بين ابن خلدون وماكيافيللي تتمثل في تنوع ثقافتيهما، وفي غنى تجربتيهما، وفي احتكاكهما بالحكام، وتعرفهما على نوازع وميول العامة في مجتمعيهما، وفي هذا الإطار حدد كل من ابن خلدون وماكيافيللي موقفه من قضايا التاريخ وشؤون الحكم وأوضاع الناس وعلاقة العامة بالحاكم، فنأيا بنفسيهما عن دور الواعظ والمرشد، واكتفيا بإبداء الرأي، وعرض المشورة، كما لم يرضيا أن يجاريا قناعات العامة وميول الأدباء.

إن أفكار وتصورات وآراء كل من ابن خلدون وماكيافيللي هي عطاء بيئتهما ونتاج عصريهما، وعصارة حضارتيهما، فابن خلدون فهم بفعل التجربة، وعن طريق الملاحظ،ة أن الخشونة من الفضائل، وأن الترف من مظاهر الانحلال، وأن العصبية من دواعي اكتساب القوة والفوز بالسلطة، وأن التطور التاريخي من خلال ظاهرة الدولة أو الملك يخضع للشروط البشرية وظروف البيئة، بحيث يمر عبر مراحل متعاقبة تبدأ بالعصبية وتبلغ أوجها فتنتهي بالانحلال، عندما يشيع الترف وتنعدم القيم وتزول الضوابط التي يقوم عليها نظام الدولة وممارسة السلطة، أما ماكيافيللي فقد رأى في مظاهر السلوك المعتادة ما قد يتسبب في هلاك الحاكم وضياع السلطة، ورأى أن أقرب طريق لضياع الممالك هو الانغماس في الملذات، والاعتماد على المرتزقة، وقد خلص إلى التسليم بدورة أخلاقية في حياة الشعوب، فانطلاقاً من تتابع الظواهر المرتبطة بالسلوك البشري وانتظامها تأكد لديه أن الفضيلة أو المنفعة المحسوسة، التي كان ينشدها من أجل تغيير الأوضاع في إيطاليا في عصره، تنتج في حالة توافرها فترة سلم يترتب عليها استرخاء المجتمع وميله إلى الدعة وركونه إلى الراحة، وهذا ما يؤدي إلى الفوضى التي تتسبب في أعقاب الفوضى، وتنتشر الفضيلة في كنف النظام، فعهد النمو الأدبي يأتي دائماً في أعقاب التفوق الحربي، كما أن المحاربين العظام يظهرون عادة قبل الفلاسفة والمفكرين.

إن هذه النظرة الديناميكية للتطور التاريخي، التي تقوم عند ابن خلدون على تفاعل عامل العصبية، وتستند عند ماكيافيللي إلى مبدأ تعاقب فترتي الفوضى والنظام، تعود في الأساس إلى ملاحظاتهما الدقيقة لأحداث التاريخ وطبائع البشر، هذه الملاحظة التي جعلتهما يسلّمان بالواقع وإن كانا يأملان في تغييره، لأنه في نظريهما يتماشى وما يقتضيه العقل وما تقره التجربة التي تقوم عليها الحياة البشرية.

أما جوانب الاختلاف بين الرجلين فهي نابعة من الميول والأفكار الخاصة بكل واحد منهما، وناتجة أساساً من اختلاف القيم الحضارية التي ينتميان إليها، وتباين ظروف العصر، وشروط البيئة لكل واحد منهما، فأوضاع المغرب العربي، والظروف الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية السائدة به، جعلت ابن خلدون يغلب عليه التشاؤم والميل إلى الانسحاب من الحياة، وانتهى به المطاف إلى ترك بلاد المغرب، فعاش حياة متقلبة، ومضطربة في المشرق العربي، فجاءت أفكاره التي اكتملت في بلاد المغرب في شكل تنظير لقضايا التاريخ وشؤون المجتمع وطبيعة الحياة، وبذلك ظلت مجرد أفكار شخصية لم يتأثر بها معاصروه من المشتغلين بالثقافة، ولم تعرف التطبيق العملي، وهذا ما يجعل منه في مسرحية التاريخ شيئاً هرماً يقف على عتبة الحضارة الإسلامية وقت الغسق يشهد غروب تلك الحضارة في القرن الرابع عشر الميلادي، يتأملها بحكمة، بعد أن كاد عطاؤها يتوقف، ويجف ماء الحياة منها بفعل ما لحق بها من أضرار، بسبب العصبية، ومن تدمير بسبب نزاعات الحكام، وطغيان البداوة، وانكماش الزراعة، وتراجع حياة الاستقرار، فانغلق الفكر وراح يجتر التراث، وغرق الناس في التصوف الذي يبعدهم عن مشاكل الحياة ومتطلباتها، وانقطع معين التجديد لدى الفقهاء، الذين استبدوا بالمعرفة وعقموها بتزكيتهم غلق باب الاجتهاد ومحاربة سبل الإبداع والتجديد، فلم يجد ابن خلدون ما يعزي به نفسه، وهو يؤسس لنظرية العصبية القائمة على فكرة التعاقب الدوري للدول سوى التمعن في الآية القرآنية (وتلك الأيام نداولها بين الناس).

بينما كان ماكيافيللي يتفاعل في مجتمع فلورنسا، الذي احتضن عطاء النهضة الأوربية بكل تناقضاتها، وإيجابياتها، فكان موقفه في مسرحية التاريخ أشبه شيء بشاب يافع يستيقظ مع نسمات الصباح المنعشة عند بزوغ شمس الحضارة في سماء أوربا، ولم يكن له الوقت الكافي للتأمل كما فعل ابن خلدون، وإنما كان يتقد حماسة للمشاركة في صنع الأحداث، فرأى أن الفائدة ليست في الطرق والوسائل، وإنما في الغايات والمكاسب، فجعل من بطله (الأمير) حاجة اجتماعية وضرورة سياسية اقتضاها مجتمعه ويتطلبها عصره.

لقد عبر ماكيافيللي عن روح عصره الثائرة، وعكس تفاعلات بيئته المتيقظة، فيما اكتفى ابن خلدون بتسجيل ملاحظاته في مقدمته، بالرغم من كون آرائه تعبيراً عن مفاهيم مجتمعه أكثر تحرراً، إن لم تكن أبعة من مفهوم الأخلاق السائدة، وتصور المعتقدات والأديان من آراء ونظرة وموقف ماكيافيللي.

لقد ظلت مساهمته وكأنها القطعة الخالصة من الذهب المغطاة بالتراب، والمدفون تحت الأرض بعيداً عن أيدي الباحثين عن المال، فلم تصبح موضوع اهتمام ودراسة عندنا إلا في القرن التاسع عشر، وهذا عكس ما عرفته مساهمة ماكيافيللي في تطور المفهوم التاريخي ونظرته إلى السياسة والحكم، وكان بذلك منطلقاً لتأصيل علم السياسة، وأساساً لتطور النظرة التاريخية لاستقراء الأحداث، واستخلاص الأحكام والمفاهيم منها.

 

العدد 1105 - 01/5/2024