الحرب الروسية الأوكرانية: صراع سياسي بقناع إيديولوجي               

بقلم إبراهيم الحامد:

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور روسيا وريثاً شرعياً له، ومع وصول فلاديمير بوتين (ضابط الاستخبارات السوفياتية السابق) إلى رئاستها، بدأ باستراتيجيته في بناء قطب رأسمالي بقيادة روسيا في مواجه القطب الرأسمالي بقيادة أمريكا، التي تفرّدت بقيادة العالم والتدخل بشؤون الدول وتغيير أنظمتها وفق مقتضيات مصالحها، وبدخول روسيا في سورية بطلب من الحكومة السورية في عام 2015، باتت وجهاً لوجه في صراع مع أمريكا على الأراضي السورية، وبذلك ساهمت روسيا في إفشال المشروع الأمريكي (الشرق الأوسط الجديد)، الذي بدأت واشنطن بتنفيذه مع بدء ما سمي بـ(الربيع العربي)، بالتعاون مع مرتكزاتها الإقليمية (إسرائيل- تركيا -قطر- السعودية). وعلى إثر فشل المخطط على الأرض السورية، وعدم تحقيق هدفها في جعل سورية دولة (فاشلة) كمنطلق في تحقيق مشروعها، آنذاك حمّلت القوى الداخلية والخارجية المعادية للحكومة السورية فشل المخطط للرئيس الأمريكي السابق (ترامب)، بذريعة أنه ما كان جدّياً في مواجهة روسيا ولا في (تغيير النظام السوري)، وكانت تلك القوى تجيّش الرأي العام الداخلي والخارجي على أن روسيا تمثل الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية، وبثّت التجييش في إعلامها الموجّه والممول من دوائر الاستخبارات الغربية ومن يدور في فلكها، حتى بات أغلب المعارضة وحتى بعض الموالين للحكومة السورية ينظرون إلى روسيا بالمنظور الإيديولوجي نفسه في تحليلاتهم ومواقفهم. وذلك ما دفع بأمريكا أن تشعر بتراجعها وما أصابها من الإجهاد، نتيجة خسائرها إثر تدخلها في العديد من المناطق، ودخول حلف الناتو ما يشبه حالة الموت السريري، وبدأ تمرد بعض دول حلف الناتو عليها، مثل تركيا، وتململ الاتحاد الأوربي ورغبته في الخروج من سطوة أمريكا بعد الانسحاب البريطاني منه، وخاصة بعد أن طرح الرئيس الفرنسي ماكرون مقترحاً بإنشاء قوة عسكرية أوربية خاصة بحمايتها، هذا من جهة، إضافة إلى نمو مخالب الدب الروسي الرأسمالي، وتقرّبه من أوربا بمشاريع اقتصادية وخاصة في مجال الطاقة، ومع ظهور الصين كقوة اقتصادية عالمية ومنافسة لأمريكا، التي رأت أنها تشكّل خطراً على اقتصادها وأمنها القومي.

كل ذلك دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى إعادة النظر باستراتيجيتها الخارجية، التي تهدف بالمضمون إلى: خلق فوبيا روسية لدى أوربا، وإعادة الحياة لحلف الناتو، واستنزاف القوة الروسية، والاستعداد لمواجهة الصين من بوابتها الغربية عبر روسيا، وذلك لتتمكّن من الاستمرار في التفرد كقطب أوحد بقيادة العالم، لذا مع مجيء جو بايدن (الرئيس الحالي لأمريكا)، الذي بدأ بعملية الانسحاب من أفغانستان، والتفرّغ لإعداد حرب ذات (طابع هجومي) جوهره إنهاء التهديد الروسي كقطب في مواجهة أمريكا. ومهّدت لحربها تلك، بهجوم إعلامي ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأظهرته على أنه قادم ليثأر للاتحاد السوفياتي السابق، الذي سقط على يد المعسكر الرأسمالي، ويعمل على إعادة تأسيسه من جديد، كما يسعى للتحكم بمصير أوربا من خلال مشروع (نوردستريم 2) للغاز الروسي، وذلك من أجل إقناع حلفائها ومن يدور في فلك النظام الرأسمالي إيديولوجياً، بأن صراع المعسكر الغربي مع النظام الروسي هو صراع إيديولوجي، على غرار الحرب الباردة أيام الاتحاد السوفياتي السابق، وللأسف انطلى ذلك على مواقف كثير من القوى السياسية والشعبية والدولية ومزاجها، بفعل الإعلام المجيّش لذلك، فبدأ انقسام الموقف السياسي وحتى الشعبي من روسيا وأمريكا على أساس إيديولوجي، وقبل ذلك أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن في شباط عام 2021 قراراً، ألغى به سقف وجود القوى العسكرية الأمريكية في ألمانيا، الذي كان محدداً بـ 25 الف جندي، وعقب ذلك وفي العام ذاته قدّم للبنتاغون وثيقة من أجل مراجعة استراتيجية للوضع العالمي، بما يترتب في توجيه أوضاع الجيش الأمريكي وسميت بـ(وثيقة المراجعة الاسترتيجية) ورغم سريّتها فقد سرّب البنتاغون بندين من تلك الوثيقة وهما :

-1) تقوية الرادع القتالي ذو المصداقية ضد العدو الروسي في أوربا.  2- تمكين الناتو من العمل بجدية و(تقوية الجيش الأمريكي لعمليات الانتشار، والقواعد الموجهة نحو روسيا وصولاً إلى الصين، مع الاحتفاظ بقوة كافية في شرق الأوسط).

ولتحقيق ما سبق كان لا بد من أضحية (كبش فداء)، كطعم لجرّ روسيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، وكانت أوكرانيا هي المرشحة لذلك بعد مجيء زيلينسكي للحكم بدعم أمريكي، فقُدّمت له وعود بضمه لحلف الناتو، بعد أن ينفذ مهام تحريضية تثير حفيظة روسيا وتجرها لحرب، مع وعود أمريكية وغربية بدعمه في الحرب إن حدثت.

مع بدء تنفيذ بنود (وثيقة المراجعة الاستراتيجية) الأمريكية على أرض الواقع، بتأسيس مكاتب مخابرات الناتو وتوسيعها في أوكرانيا، ونشر عدة ألوية عسكرية في الداخل، وقيام قواد النخبة الأوكرانية بممارسات معادية لروسيا، وإمداد أوكرانيا بمسيّرات (بيرقدار) التركية، ووصول قادة (دواعش الروس) إلى كييف قادمين من التنف السورية وسجن الحسكة، بذلك أنهت أمريكا تحضيرات لغزو دونباس وجر روسيا للحرب، إلا إن روسيا استبقت الهجوم واعترفت باستقلال دونتيسك ولوغانسيك، وبدأت بهجومها المضاد تحت مسمى (عملية عسكرية) لحماية دونتيسك ولوغانسيك، وحماية حدودها الغربية وتطهيرها من كل ما يهدد أمنها القومي، عملاً بالأعراف والقوانين الدارجة، لأن من واجب الجيش الوطني في أي دولة حماية أمنها القومي من أي تهديد خارجي تتعرض له بالقوة المسلحة، ومن العرف الدارج يتمتع كل جيش وطني بانتزاع المبادرة الاستراتيجية بموجب قانونه الوطني من دون الرجوع للقانون الدولي، لأن ذلك يدخل في إطار قانون (الردع الاستباقي). وإذا أخذنا مسألة السلم العالمي كمعيار في تحديد الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، فلا شك في أنها مثل جميع الحروب مدانة ومرفوضة، أما إذا فرض على دولة ما الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر، وكان المعيار في تحديد الموقف، هو عملية التكافؤ فيما بين الدول وحماية أمن القومي لها بموجب القانون الدولي والقانون الوطني لكل دولة، حينئذٍ يمكن القول بأن روسيا كدولة أسوة ببقية دول العالم تتمتع بمعادلة (القيم والمكانة)، لذلك هي ترى أن قيمها لا تسمح لقيم الليبرالية الجديدة للمعسكر الرأسمالي الغربي، أن تحل محل ليبراليتها وقيمها الرأسمالية الوطنية، وترى أن مكانتها الجيوسياسية والعسكرية لا تسمح للناتو أن يحل محلها، وهذا يفند ما ذهب إليه بعض المحللين، بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أخطأ في حساباته، لأنه باعتقادي قد ترجم قيم ومكانة الجيش الروسي والدولة الروسية ترجمة صحيحة ودقيقة، وباستراتيجية استباقية لصد الهجوم الأمريكي بعملية عسكرية مضادة، ولأن روسيا كدولة وجيش وليس بوتين، قد واجهت باستراتيجية مخططة من أجل حماية أمنها القومي، وردع الخطر عن نفسها، أسوة ببقية القوى العالمية التي تتبع هذا العرف، أقول ذلك بعيداً عن المنظور الإيديولوجي أو المصالح الدولية، ذاك المنظور الذي اعتمدته الكثير من الدول والقوى السياسية المعادية أو الموالية لروسيا، لتحديد الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، لأنهم ما زالوا يرون في روسيا على أنها الدولة الشيوعية، علماً أن الواقع وما نجم من الحصار والعقوبات التي فرضتها دول المعسكر الغربي على روسيا قد كشفت عن زيف ذاك القناع الإيديولوجي، الذي ألبسه الغرب الرأسمالي للحرب الروسية الأوكرانية، لأن الحرب عموماً هي منفس للأزمة التي يعيشها مركز الرأسمالية العالمية، وباعتبار أن كل الدول التي تنتهج نهج النظام الرأسمالي وتتبنى الليبرالية في إدارة اقتصادها والمسمى (اقتصاد السوق الحر)، هي مرتبطة عضوياً وبنيوياً فيما بينها، لذا وجدنا أن أسواق جميع تلك الدول قد تأثرت بما فرض من عقوبات على روسيا، وارتفعت فيها أسعار المواد الغذائية والطاقة، حتى انتقلت إلى عمق النظام الرأسمالي في أمريكا، وأعتقد أن ذلك سيدفع بالعالم وخاصة (دول العالم الثالث) إلى المجاعة والكساد الاقتصادي، على غرار ما حدث قبل الحرب العالمية الثانية عام 1929 ما بين بريطانيا زعيمة النظام الرأسمالي العالمي آنذاك من طرف، وكلٍّ من إيطاليا واليابان وألمانيا مجتمعة من طرف آخر، وهذا ما يجب أن تتداركه كل القوى العالمية التي تدعي أنها ضد أمريكا والرأسمالية المتوحشة، وذلك بأن تتخلى عن النظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي فرضه صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، التي هي أدوات القوى المالية المتوحشة في النظام الرأسمالي العالمي، والتوجه نحو نظام اقتصادي مخطط برعاية الدولة، ويعتمد التعددية الاقتصادية، على أن يكون القطاع العام الإنتاجي في مجال الطاقة والمياه والصحة والتعليم هو الأساس والعمود الفقري للاقتصاد، وتدعم كل الطبقة الكادحة، التي تشكل الأغلبية الشعبية في أي دولة .

وبالمحصلة إن الحرب الروسية الأوكرانية هي حرب وجود بالنسبة لروسيا في مواجهة الغرب الرأسمالي، والقطب الإمبريالي المتوحش -البريطاني الأمريكي- الذي يسعى للحفاظ على عالم أحادي القطب بقيادة أمريكا، وليعلم من يناصب روسيا العداء على أنها شيوعية فهو واهم، ومن يناصبها العداء من المعارضين السوريين بسبب مساندتها كما يقولون لـ(النظام السوري) فهو مخطئ في حساباته، ولن يصبّ ذلك الموقف في المصلحة الوطنية السورية. ولا شك أن نتائج الحرب ستفرض على العالم قوانين جديدة أكثر عدلاً، ستظهر وتبزغ في آفاق العالم لا يمكن حجبها، وهي نتيجة وحتمية التغيير وتطور المجتمع البشري، إلا أن البعض لا يريد أن يراها، لأنه لا يملك الجديد، أو لا يعرف البديل الأفضل، أو أنه لا يريد معرفة الحقيقة، وليظل في رجعيته ونفاقه الفكري من أجل مكاسبه الشخصية، وقادم الأيام سيكشف ذلك، فإن انتصرت روسيا فسوف تفرض على الجميع التوجه نحو طاولة المفاوضات من أجل التأسيس لنظام عالمي جديد أكثر عدلاً وأمناً للبشرية، وإن خسرت_ وهذا ما أستبعده لأسباب جيوسياسية وعسكرية وعدم رغبة الاتحاد الأوربي في مواجهة روسيا_ وقتئذٍ ستبدأ المواجهة الإيديولوجية الفعلية بين الإمبريالية العالمية بقيادة بريطانيا وأمريكا وباقي الدول الرأسمالية كطرف، والصين الشعبية الاشتراكية وكوريا الشمالية ودول أمريكا اللاتينية التي تنحو أنظمتها نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة كطرف، والنتيجة إما أن تكون دمار الأرض وفناء البشرية، أو التوجه نحو نظام عالمي جديد أكثر عدلاً وأماناً، وهذا ما يجب أن تتداركه الشعوب وقواها الخيرة المحبة السلام والعدالة الاجتماعية، لتجنيب العالم مخاطر حرب عالمية ثالثة، باتخاذ مواقف إيجابية وبما يخدم شعوب المعمورة في مواجهة الطغم المالية المتوحشة من أفراد ونظم سياسية، تسعى وتعمل على تقليص سكان المعمورة من خلال التجويع ونشر الأوبئة وإشعال الحروب بحق الشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها، والتي هي وقودها، وحقل التجارب لأسلحة تلك القوى الغاشمة النارية المدمرة والبيولوجية الفتاكة بالجنس البشري .

العدد 1105 - 01/5/2024