بين سد الرمق وتحقيق الأرب.. (بلغ السيل الزبى) وأفلح من هرب!

سليمان أمين:

(الزبى، جمع زُبْية، ومعناها: الحُفْرة التي يُشْتَوَى فيها ويُخْتَبَز، والمقامة في موضعٍ عالٍ لطبخ غزال أو ما شابه، يمكن تناول لحمه)، فإذا وصل إليها السيل، يُفسد حفلة الشواء وتتحوّل قهقهات المبتهجين بها إلى عواء! ومعنى ذلك أن الخطب جلل والخسارة فادحة، لأنَّ السيل إذا عَظُمَ أمره صار خطراً لأنه يبلغ أعلى المرتفعات، ولا تقتصر خطورته على الأماكن المنخفضة فحسب.

أما المثل المذكور فيُضْرَبُ للأمر إذا اشْتَدَّ حتَّى جاوزَ الحدّ، وقد استخدمه العرب في الأوقات الصعبة، لدى فقدانهم لقدراتهم على التحمُّل وخروج الأمور من أيديهم، وهو من التشبيهات البليغة التي جعلت من اللغة العربية ثريةً.

ومن ثراء لغتنا العربية نستعير هذه الأيام الكثير من المفردات والمصطلحات والأمثال الشعبية التي قد تعبّر عن الأوضاع القاسية التي وصلنا إليها، أو أوصلنا إليها القدر والحكومة معاً، وليت ذلك كان بالتدريج، لقسّطناه على مراحل ولم نُفجع بقاماتنا وهي تتهاوى من علٍ، إلا أن ما وصلنا إليه كان مباغتاً بين ليلة وضحاها، ولم يترك لنا فرصة لالتقاط الأنفاس، ولا حتى خلط عبّاس بدبّاس، علّ عباس ودباس يسدّان رمقنا ويُسكتان عصافير بطوننا الخاوية، أمام الناس!

 

هل نحن أهل الكهف وإليه عائدون؟!      

يستيقظ أحدنا هذه الأيام بعد ليلِ كوابيس طويل ويمضي إلى السوق لشراء حاجات منزله وأسرته، فيشعر وكأنه من أهل الكهف، نام طويلاً واستيقظ ليرى الدنيا -كل الدنيا- في السوق قد اختلفت عليه حين كان مستيقظاً، على الأقل حتى عام 2020، فيتذكّر جدول الضرب والتقسيم وعمليات الطرح والجمع، ويدرك أن ما ارتفع من الأسعار يؤكّد أنه كان نائماً نومة أهل الكهف، مستكين القلب، مرصوص القحف! فهل يُعقَل أن يضرب أحدنا بعشرة أو أكثر ثمن ما كان يدفع ثمنه قبل سنتين أو حتى بضعة أشهر؟! هل يُعقَل؟! وما هذا الذي طرأ أكثر مما طرأ على قلوبنا في الحرب وقصم ظهور جل الشعب وأقضَّ مضاجع من كان على السعة والرحب؟! ألسنا أهل الكهف في هذا الزمن الصعب؟! نعم، ويبدو أننا إليه عائدون!

في مهب الريح هائمون

وفي مهب الريح تتطاير الآمال والأحلام والطموحات والضروريات للمواطن العادي، وتتقاذفه أمواج البيت والمأوى والمستقبل والأولاد والدراسة والمصروف والطعام والمستلزمات والمحروقات والخدمات والماء والكهرباء والفواتير، بل وتقذفه تلك الأمواج إلى (الهجرة والجوازات) بما تيسّر من الليرات والدولارات، ليصل سالماً غير غانمٍ إلى أقرب مطار من ذكريات الاتحاد السوفييتي، أو أبعد شاطئ تركي، إلى أقرب شاطئ يوناني، إلى أقرب مخفر حدودي يستقبل (زبائنه) بالألمانية، بالهولندية، بالإنكليزية، بترجمان غوغل.. لا فرق، المهم أنه يستقبل ولا يرسل ولو جملة واحدة لحكومة (الوعود  المطاطية)، تسألها ماذا تفعلين بشعبك؟!

فوضى العمل الحكومي

كانت إحدى هجينات السياسة الأمريكية قد أعلنت قبل أكثر من عقد ونصف من الزمان، عمّا يسمى بالفوضى كاستراتيجية لإدارة ما تعتقد أنهم قطعان من البشر في الشرق الأوسط، فاجتاحت تلك الفوضى المنطقة، كجائحة جنون البقر وزكام الخنازير، وكورونا، ووصلت إلى كواليس أدمغة بعض الحكوميين، فبات أداؤهم كعطاس مريض مزمن، ينثر فيروسات الفوضى في البلاد ويلعن أفطاس العباد وأوكسجينهم، وبينما يتوفر لقاحٌ ضد كورونا والزكام والشلل، فمتى يتوفر لقاحٌ ضد الخلل من كل أمر حكوميٍّ جلل؟!

إنما نحن بشر مثل المسؤولين!

ها هي ذي أيام قليلة ونكمل السنة الحادية عشرة من أزمتنا، وسنتين من مأساتنا المعيشية الطارئة الخانقة، وكادت الشهور الأخيرة من السنة المنصرمة تُجهز علينا لولا حكمة الله في مخلوقاته، أما فئة المسؤولين –ومن مختلف الدرجات- فيبدو أنها لا تتأثر بما نتأثر به ويؤثّر بنا، فـ (الكليشات) جاهزة للتعبير عما حدث وما يحدث وما سيحدث، والأوامر الإدارية على خير ما يرام، مدعومة بقرارات وآليات توزيع جديدة، لا جهد فيها سوى وضع أرقام وتورايخ لها، ودكّها في حقائب المراسلين وماسنجراتهم إلى كل حدب وصوب، ليتلقّاها أصحاب العلاقة بلياقة اضطرارية قسرية تثبت إدراكهم لأبعاد المرحلة وتحافظ على هبّة غازهم وشعلة مدافئهم وبرغل أفواههم، ولو لأخذ صور تذكارية، أو تضمن، عند آخرين عاملين، استجرار خُمس الراتب الذي كانوا يتقاضونه قبل شهور، وذلك كراتب شهري اليوم لا يُطعم –بعد كل الزيادات- جائعاً ولا يسد رمق رضيع.

مناصب ربّي أسألك نفسي!

منوال ينسج مسؤولون على خيوطه مواويل خلّبية تعد بالخلاص القادم ودحر قوى قيصر والفساد ونهاية سياسة القطب الواحد –حتى في الإدارات- بينما تزدان مرائب المسؤولين الأثرياء بالسيارات وتُطَوَّبُ الشقق للمدلّلات، ويحتفل القياديُّ بثلاث ورديات من مطربي الجيل في عيد ميلاد آخر العنقود، ليعرف أباه كيف يقود.. ثم يقود بوقود الوطن المدعوم، الخالي من الرصاص المشؤوم، سيارةً يُطعمُ مصروفُها عشرَ عائلات فقدت المأوى وبعده المثوى، لكن الشكوى –عند السوريين- لغير الله مذلّة!

من بني آدم إلى أين؟

إنه العنوان الجديد لمعيشتنا: لا أحد يرى ولا أحد يسمع من حكومة أصحاب القرار وقرار الأصحاب، سواء كان الحبل على الغارب أو كان على الجرّار.. وما علينا جميعاً كمواطنين سوى الاجترار، لنحيا كأملٍ أهوج على طوابير الانتظار!

لحمٌ مثلّج نحن في كوانين سنة مضت وأخرى أتت، ولا ضمير يهتز… وبدلاً من بشر فقد بتنا كُتلاً من هموم وبقايا أجساد يعبث بها بعض من لا رغبة لديه لإحياء ضميرٍ إن وُجد، ويحتل المرتبة الأولى من يجعل آمال الناس تصفر كالريح العاتية في كوخ مهجور، إلى أن يهجَر بنو آدم البلد وتصبح مرتعاً لبني آوى.

العدد 1105 - 01/5/2024