إن لم يتأصّل الوعي فينا.. سنبقى في دوامة الجهل

إيناس ونوس:

تنحدر كلمة خرافة في اللغة العربية من الجذر (خ ر ف) الذي إن اجتمعت حروفه بكلمة واحدة تعني الخَرَف، أي عدم امتلاك القدرات العقلية اللازمة والضرورية للتفكير والتعاطي مع مختلف أمور الحياة بعقلانية ومنطقية.

وأيضاً تأتي مرادفة لكلمة خريف، التي تستخدم مجازاً للتعبير عن فصل الخريف حين تتساقط الأوراق وتبدأ دورة حياة غالبية الكائنات الطبيعية بالانتهاء، كما أنها تدل على قرب انتهاء العمر فنقول أمسى فلان في خريف العمر، ما يعني أنه وصل إلى مرحلةٍ بدأ فيها يفقد السيطرة على ذاته وبعضاً من قدراته العقلية التي امتلكها فيما سبق.

وعلى هذا، فقد برزت الخرافات لدى شعوب العالم، حينما كان الإنسان يعتمد وعيه البسيط في تفسير الظواهر والأمور التي يجدها غريبةً وغير مفهومة لما يعايشه، سواء على المستوى الشخصي المحدود، أو على المستوى العام كالظواهر الفلكية والفيزيائية التي يشاهدها بأم عينه غير مدركٍ ماهيتها وآلية حدوثها، غير أنه مع تقدم الوعي البشري وتطور العلوم والتكنولوجيا والفنون وغيرها الكثير من مجالات الحياة المتنوعة، واعتماد المنهج العلمي في تحليل العديد من الظواهر بدأت تلك الأفكار بالانحدار والتقهقر، وأخذ الناس يبتعدون عنها شيئاً فشيئاً لما وجدوه في العلم من قدرة على تفسير ما يجري من حولهم وبشكلٍ منطقي وملموس.

إلا أن جذر الفكرة الذي قامت عليه الخرافات جميعها، وهي تغييب العقل عن العمل وتعطيله كلياً بذريعةٍ أو بأخرى، كانت ولا تزال تخدم الطبقات الحاكمة التي تبتغي السيطرة على الوعي الجمعي، كما أنها ورقة رابحة في أيدي رجال الدين ايضاً، وغيرهم ممّن نطلق عليهم اسم المشعوذين والسَّحَرة، ولا سيما في الأوقات العصيبة التي يمر بها الإنسان ويشعر بنفسه مفلساً من كل شيء، وأن محاولاته جميعها تبوء بالفشل الذريع، فيصاب بالإحباط واليأس وتغدو الحياة برمتها لا تعني له شيئاً، ويصبح كالغريق الذي يتعلّق بقشةٍ محاولاً النجاة ممّا وقع فيه، هنا يظهر أولئك الدجّالون، مستخدمين تعابير برّاقة وطرقاً شتّى في إقناع الضحية أن جنّياً ما قد تلبَّسه، أو أن أحداً ما يحسده على ما يتنعّم به فيعمل له عملاً (أي سحراً)، ويحاول رجال الدين أو السياسة ممّن لهم مصلحة كبرى في تعطيل هذا الشخص أكثر فأكثر إيهامه أن فشله ناتج عن عدم سماعه لتعاليمهم ونصائحهم ورؤاهم، ثم ستقوم القوى الخفية بالنيل منه إن لم يكسب الوقت ويسارع للحاق بهم، ولكن هذا الإنسان اليائس يشعر بالضعف وفقدان القدرة على السيطرة على ذاته، ولأنه أساساً لم يكن متمكناً من أفكاره وما تشرّبه خلال حياته، يصبح لعبةً في يد هذا أو ذاك، ونفاجأ به في نهاية المطاف وقد تحوّل إلى شخصٍ آخر غير الذي كنا نعرفه مسبقاً، هذا إن بقي نكوصه له وحده ولم يتحوّل إلى داعيةٍ لأولئك الذين استفادوا من ضعفه ويأسه.

من البديهي أن نجد أشخاصاً أميين (وأعني بهم هنا من لم يتعلموا من الحياة شيئاً البتة، وليسوا حملة الشهادات) بسيطين في وعيهم وتفكيرهم يخضعون لتلك الخرافات والخزعبلات، فالمجتمع من شأنه أن يضم كل الفئات والطبقات، أما أن نعايش اليوم نكوص العديد من الناس ممّن كانوا منارةً في الوعي وقدوةً لغيرهم، أو من حملة الشهادات العليا في العلوم التي تعتمد العقل والمنطق والتحليل العلمي كفيزيائيٍّ/ة درس/ت وتعب/ت وقام/ت بالعديد من التجارب العلمية سابقاً واليوم هو أحد أتباع هذه الأفكار والترّهات، فهذا الأمر يشي بأننا نتجه نحو القاع أكثر فأكثر، ويؤكّد لنا أن كل ما تم تبنيه لم يكن إلّا حبراً على ورقٍ ضاع في مهب ريح التخلف والجهل عند أول فرصةٍ سنحت له، ما يدل على أن التخلّص من تلك الأفكار لم يكن أكيداً ولا حقيقياً، بل ودلَّ أكثر على قوة سلطة تلك الأفكار وحامليها الذين يستكينون فترةً حينما لا يجدون لهم فسحةً في حين أنهم يعملون على تقوية أدواتهم ليستخدموها سلاحاً فتّاكاً في قتل الآخرين ما إن يحين الوقت المناسب.

إننا في مجتمعات لما تزل تخضع لهيمنة الخرافات والخزعبلات وفي مختلف المجالات، وإن لم نمتلك أدوات الوعي الكافية واللازمة للوقوف والنهوض ومن ثم التطور بشكلٍ متأصلٍ في تلابيب عقولنا سنبقى في قاعنا بينما يتجه العالم الآخر نحو الأفق بكل بهائه واتساعه.

العدد 1105 - 01/5/2024