متفوقون ولكن..

حسين خليفة:

التفوق، العبقرية، الموهبة، الذكاء وغيرها من كلمات توحي بانطباع واحد، لكنها تفترق في المعنى حيناً وتتقاطع حيناً، ولأننا لسنا بصدد إعداد بحث علمي عن التفوق كظاهرة بشرية مجتمعية فإننا سنكتفي بإيراد مفهوم عام للتفوق.

تستخدم العديد من الكتب والمراجع التربوية كلمة تفوق (Giftedness) للإشارة إلى الكفاءة المتميزة للفرد والقدرة الفعلية العالية والذكاء المرتفع.
أما الابتكار (Creativity) فهو يعني قدرة الفرد على الإنتاج الذي يتميز بأكبر قدر ممكن من الطلاقة والمرونة والأصالة وهو نتاج التفوق.

ويدمج بعض العلماء العديد من المفاهيم عند التعريف ليصبح التفوق هو المفهوم الشامل أو المظلة الكبرى التي تندرج تحتها جميع المفاهيم الأخرى، ولا بدَّ من الإشارة إلى أن للتفوق وجهين: سلبي، وإيجابي، كأي ظاهرة مجتمعية، فهناك تفوق يُستثمر لخدمة الشعوب والمجتمعات وتطويرها وتحسين حياتها، وهناك تفوق يُستثمر في التدمير والحروب والتآمر على الشعوب والمجتمعات وتخريبها.

التفوق ليس ميزة خاصة بشعب أو دين أو عرق، وقد أثبتت النظريات التي تقوم على تفوق عرق ما أو دين أو قومية أو أي جماعة بشرية على غيرها، أثبتت خطأها وتهافتها، بل كان لبعضها آثاراً تدميرية على شعوبها وشعوب العالم (مثل النازية والفاشية).

كل مجموعة بشرية (عرقية أو دينية أو قومية أو….) قابلة لأن يظهر فيها أفراد متفوقون نتيجة لتوفّر مقومات التفوق والبيئات المنتجة له.

لكن هناك مسألة تخص الشعوب التي تتعرض لكوارث وهزات تاريخية كبيرة، الشعوب التي تطحنها رحى الحروب الأهلية أو الإقليمية، وهي تعويض عن الهزائم الكبرى التي تتعرّض لها مجتمعات هذه البلدان، وانكسار الأحلام في بناء دولهم الوطنية وتطويرها والعيش بأمان وسلام وبناء تنمية وطنية متوازنة وعادلة، بالتفوق على أنفسهم في المجتمعات التي يهاجرون إليها هرباً من ويلات الحرب أو من ضيق العيش في بلدانهم، وحتى الذين يبقون منهم في أتون الحريق يجترحون المستحيل في تحدي العيش والبقاء ضمن ظروف الحرب والأزمات الاقتصادية، وهو أيضاً تفوق وتحدٍّ يستحق التوقف عنده وقراءته بعمق.

ما حصل مع السوريين هو أنهم عاشوا على مرّ قرون لعنة الجغرافيا، موقع البلد في ملتقى الطرق التجارية العالمية وغناها الطبيعي وثرواتها، جعلها محطَّ أنظار الإمبراطوريات الكبرى والقوى الإقليمية الصاعدة منذ القدم، فكانت أرضنا مقصداً للغزاة والطامعين، وهو ما يعطي بعض الإجابة، كما أعتقد، على ما يتميز به السوريون من حبّ للعمل وإتقان له والاستفادة من أقل الإمكانات المتاحة للعيش والإبداع.

الحرب التي شهدتها سوريو، وما زلنا نشهد فصولها الأخيرة ربما، وما صاحبها من خراب ودمار وخطر على حياة الناس، وفقدان الأمان الجماعي والشخصي، وموجات النزوح الكبرى داخلياً وخارجياً، كل هذه الأمور أعادت السوريين إلى مواجهة لا ترحم مع الذات والآخر، ولم يعد مجدياً الالتفات إلى ما سبّب هذه المأساة ومن سبّبها، بقدر ما صارت الحلقة الأساسية عند السوريين هي الاستمرار في الحياة وتحدي كل هذه القوى العاتية التي فتكت بالوطن السوري وجعلته على شفا التقسيم والاندثار.

وهو ما خلق ظواهر مفرحة في عتمة الحرب هي حالات تفوق لسوريين وسوريات في المنافي والمهاجر وحتى في مخيمات اللجوء، وتمت الإضاءة على بعضها بفضل تطور وسائل التواصل الاجتماعي وفعالية الإعلام وانفتاحه، فيما بقي البعض الأكثر منها طي العتمة، وأدعي أن الحالات التي لم تنل نصيبها من الضوء هي أعظم وأكبر من الحالات التي نشرت وصارت حديث الناس.

من وجهة نظري إن حالات التفوق للسوريين في المنافي لا تتميز كثيراً، على سبيل المثال لا الحصر، عن حالات التفوق التي عرفناها عند اللبنانيين الهاربين من حربهم الأهلية (1975 ـ 1990) وعند الأفارقة الذين هربوا من حروبهم وفقرهم إلى المهاجر الأوربية والأمريكية وحققوا تفوقاً لافتاً رغم النزعات والممارسات العنصرية بحقهم.

وفي الداخل السوري أعتقد أنه لو توفرت البيئة الراعية للتفوق والتميّز لقرأنا وشاهدنا قصصاً لا تقل أهمية وفعالية لسوريين تحايلوا على ويلات الحرب، وحققوا إنجازات لافتة وتفوقاً يُشار إليه بالبنان، لكن طغيان صوت الرصاص خلال سنوات الحرب الشعواء، وطغيان أصوات المزاودين والمدَّعين والفاسدين مرددي الشعارات الفارغة خلالها وبعدها، جعل إمكانية نجاح أي مشروع للتفوق ضرباً من المستحيل، وأي لمعة إبداع هدفاً يصوب عليه هؤلاء الانتهازيون والفاسدون نيرانهم، لأن الحقيقة ترعب هؤلاء، ووجود الحالات الإيجابية يفضح سلبيتهم وتخريبهم.

في رؤيتنا لمستقبل سورية لا بدَّ من الالتفات إلى حالات التفوق والإبداع التي يجترحها السوريون في منافيهم ومخيماتهم، وإعطائها مكانها الذي تستحق في سورية القادمة حتماً بعد تحقيق المصالحة الوطنية والتسوية السياسية التي ستعيد بناء سورية الديمقراطية العلمانية العادلة طال الزمن أو قصر.

 

                                                                  Husenkhalife@hotmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024