ألم لا تحمله الجبال..

ريم داود:

نبكي، نذرف الدموع، نتألم، ننهار وتزلزل الأرض من تحت أقدامنا، تضيق صدورنا وتتوجع أجسادنا، نكتوي بالألم، وتبقى أمهاتنا شامخات عزيزات، ملجأ لنا وقت الضيق والشدائد والمصائب.

فمع أول لحظة تحمل بها الأم مولودها الجديد بين يديها تخبره أنها العالم بالنسبة له وأن العالم ملك يديه في حضن أمه. جميعنا يرى في أمه مصدر القوة في صبرها وجَلَدها وتحمّلها للآلام والمشاق. ومنذ أن كشّرت الحرب عن أنيابها، كان نصيب الأم السورية كثيراً من الألم والوجع والقهر، خاصة أنها أخذت على عاتقها حماية جميع أبنائها دون استثناء، فما بالك إن لم تستطع فعل ذلك؟

كم من أم فقدت ولدها بين قتيل أو مخطوف، بين معتقل أو شهيد؟ كم من ألم اعتصر صدرها وهي تودع أبناءها مُهجّرين مُشتّتين في مختلف أصقاع الأرض بعد أن كان حضنها مكان إقامتهم ولمّ شملهم؟

عن كمِّ الألم والمعاناة أتحدث.. عن أمٍّ هي حجر الأساس والزاوية في تكوين أسرة متكاملة متناغمة ومترابطة أتحدث.. عن أنين صامت، وفقر قاتل، وقلّة حيلة عانتها أمهات السوريين أتحدث.. وكأمٍّ أحيا مشاعر الأمومة مع أطفال، أكثر ما يهزُّ باطني ويقتلع قلبي من بين ضلوعي هو سماع قصة أم يعتصر قلبها وينزف حرقة على ابنها المريض، الفقيد، الشهيد، المخطوف، المهاجر، المُهجّر، الجائع، المتعب والتائه. كم من الدموع تسقي تلك الأمهات وسائدها ليلاً لتعاود النهوض مستقيمة شامخةً عزيزة، فتكون مصدر القوة والصلابة لعائلتها. وسأغتنم الفرصة في هذا المقال لأروي نضال سيدة عانت الويلات مجتمعة من تهجير، حصار، فقر، جوع، خوف، وألم وفتك المرض بجسد طفلتها النحيل مهدداً حياتها بالهلاك.

(أم عزيز) سيدة في العقد الثالث من العمر، مثقفة مهذبة، من عائلة ميسورة في الشمال السوري تروي ما تعرضت له وأسرتها من ويلات.. تقول: كنّا نقطن منزلاً كبيراً في الشمال السوري، فزوجي وإخوتي يملكون مزرعة كبيرة والملك لله، إلى أن خرجت المنطقة عن سيطرة الحكومة بشكل كامل، ولن أدخل معك بتفاصيل ما كان يحدث، فأظنُّك على بيّنة ودراية بالانتهاكات والعصيان الذي كان يحدث. بعد مضي ما يقارب الستة أشهر على معاناتنا مع المجموعات المسلحة بدأتُ ألاحظ على ابنتي (آية) نحولاً وشحوباً غير مسبوق مع فقدان شهية كامل، وبعد أسبوع بالضبط بدأت (آية) ذات العشر سنوات تعاني الحمى والإرهاق، فما كان من زوجي إلّا أن لجأ لأحد الأطباء الذين كانوا موجودين ضمن منطقتنا، وحسب تشخيصه كانت (آية) تعاني حمى طبيعية وأنها ستزول مع تناول العقار المناسب، وبالفعل بدأنا بإعطائها المضادّات الحيوية اللازمة لكن دون جدوى، فحالها كانت تسوء يوماً بعد يوم مع ازدياد بالحمى وتفاوت بدرجات حرارة جسدها النحيل. فما كان منّا إلاّ أن اتجهنا نحو القرية المتاخمة لنا وسط مراقبة ومرافقة مشدّدة ممّا زاد خوف ابنتي وقلقها، وبعد المعاينة والفحص من قبل الطبيب أشار علينا بضرورة إجراء بعض التحاليل لنكتشف بعد فترة وجيزة أن (آية) مصابة باللوكيميا أو ما يعرف بسرطان الدم. خوف، صمت، صدمة، قشعريرة ويأس أصابني وزوجي مع سماع كلمات الطبيب وهو يردّد على مسامعنا (لازم تطلع من هون، البنت بحاجة علاج خاص وإلاّ بتخسروها!) ظلّت تلك الكلمات كالمنبّه تطنطن داخل رأسي لا تفارق مخيلتي إلى أن قررنا إخراجها والاتجاه بها نحو العاصمة. وهنا كانت المأساة فقد مُنِعنا من مغادرة المكان بشكل كامل، أيام كانت تمضي وحالة (آية) الصحية تتراجع للخلف. بعد السعي والمناوشات والتواصل مع أحد الأشخاص المعروفين استطعنا إخراج (آية) ووالدها، وبقيت وطفليَّ الآخرين محاصرين ممنوعين من مغادرة المكان. التفتت (آية) إلى الخلف تنظر إليَّ وكأنها ترسل لي نظرات الوداع منطلقة نحو رحلة جديدة من الألم والمعاناة والوجع وحيدة تصارع الموت والخوف والمرض بمفردها. لحظات كنت أعيش تفاصيلها من بعيد أطمئن عليها أنصتُ لصوت أنينها وألمها يناديني فأحسّه في صدري كالخنجر، ما الذي اقترفته تلك الطفلة لتتكبّد كل هذه الآلام؟ كل ما كان يشغل بالي هو التفكير بوسيلة أخرج بها من ذلك المكان، وبالفعل بعد مضي ما يقارب الثلاثة أشهر استطعت الهروب مع طفليَّ باتجاه العاصمة، رحلة لا أتمنى مخاطرها لعدو، وإن صحّ التعبير سأقول إننا شهدنا الموت بأم العين.

وصلنا أخيراً بعد مضي عشرة أيام على ترحالنا غير مصدقين أننا لا نزال على قيد الحياة، اتجهت فوراً إلى المستشفى حيث كانت (آية) تتلقى العلاج، لم أتوقع أن أشهد وجهها النيّر وابتسامتها الجميلة تغيب يوماً ما، جلست أراقب ألمها الممزوج بالأمل، أراقب ابتسامتها المخلوطة بالوجع، ابتسامة كان يختبئ خلفها أنين ووجع ودموع أشهر من المعاناة، غمرتها بكلتا يدي راجية أن تسامح تأخيري وتصفح عني فعاودت الابتسامة من جديد، شعرت في تلك اللحظات أنها ليست على ما يرام وأن حالها الصحية غير جيدة، قبّلتها وغادرت الغرفة فوجدت الطبيب يحدث زوجي عن ضرورة تأمين مجموعة من الأدوية التي تحتاجها (آية). اتجهت مسرعة أجلب ما بحوزتي من نقود كانت مخبأة بجواربي وثياب طفليَّ الداخلية، لكن للأسف لم تكفِ النقود ثمن الدواء فارقت (آية) الحياة بعد يوم وهي تتمتم: (لا تتركيني مرة تانية! بخاف بلاكي). قبّلت جبينها ويديها وقدميها لأستودعها بين يدي الله حيث لا ألم ولا وجع.. ألم، وحزن، ونار تكوي الصدور حال تلك الأم تودع طفلتها التي لم تشهد النور بعد صراخ وتنهّد ساد المكان، أولا يحق لها الصراخ؟ ويل لفقر يأكل الأجساد! ويل لمرض يخطف الأولاد! ويل لجوع وبرد يفتك بالأكباد! والويل لكل من بهم صمم عن أحوال هذه العباد.

العدد 1104 - 24/4/2024