آهات أمهات سورية تطاول عنان السماء الصمّاء ولا من مغيث!!

إيمان أحمد ونوس:

منذ أن أنشبت الحرب نيرانها ومخالبها في حياة السوريين قبل أكثر من عشر سنوات، كانت حصة الأم السورية من الألم والوجع والقهر والخوف هي الأكبر.

تلك التي عانت فقدان الزوج والأبناء إما قتلى أو مخطوفين، معتقلين أو شهداء، ومهجّرين مُشتّتين في مختلف بقاع الأرض.. وما زالت عيناها ترمقان الغد لعلّه يحمل عودة ابنٍ مفقودٍ أو مخطوفٍ أو معتقل، حتى كادت آمالها أن تتلاشى أمام مرارة الانتظار.

تلك التي سكنت المقابر تناجي زوجاً وأبناء وأحبة كانوا بالأمس دنياها وجنّتها، فقضوا في حروب الردّة المزعومة والكرامة المهدورة على أعتاب المصالح والمطامع والغايات.

تلك التي قارعت اغتصاب ابنتها بلا حول لها ولا قوة، دون أن تُدرك حمايتها من وحوش بشرية آثرت انتهاك الإنسانية بتمزيق أنوثة الحياة على أعتاب حقدٍ لا حدود له، أو شهوات مريضة تستغل فوضى الحياة لتروي عطش شذوذها.. أو عطش حقد متوارث قابع في دهاليز نفوس مأزومة منذ قرون.

وتلك التي كابدت مآسي التهجير والنزوح واللجوء بعد أن تناثر عمرها أشلاءً، تحت وقع انهيار بيتٍ أخذ منها أجمل سني عمرها حين شيّدته وأسّسته بدموع الحاجة مثلما أثّثته بآهات العوز والجوع، فصار اليوم ركاماً منثوراً.

تلك التي افتقدت من يُعينها على أعباء أسرة وأطفال فقدوا الأب في حرب لا ناقة لهم فيها ولا بعير.. فاقتحمت العديد من الأعمال التي كانت حكراً على الرجال، وحين لم تجد العمل افترشت الشوارع والأرصفة تبيع ما تيّسر لها من بضاعة بسيطة أو خضراوات، وإن انعدمت لديها الحيلة تسوّلت بعض المال علّها تؤمّن كسرة خبز تُطعمها لأبنائها الذين عاشت معهم الجوع والعوز والبرد، ولم تجد في غالب الأحيان ما تطعمهم إياه في ظلّ الغلاء وانعدام الحيلة والأخلاق.

تلك التي عايشت أنين أطفالها وأبنائها المرضى وهي عاجزة عن إحضار طبيب أو دواء.. وكم من أطفال ماتوا بسبب الجوع والمرض والبرد أمام أعين الأمهات التي أحرقتها دموع القهر والحسرة والعجز.

تلك التي كان الانتظار بالنسبة لها ترتيلة الصباح والمساء أملاً بعبور نفق امتدت ظلمته وطاولت كل الأوقات.

هي الأم السورية التي كتمت أنين روحها ولوعة قلبها كي تجتاز عواصف الحرب فتصل إلى برّ السلام والكرامة الموعودة.

تمرُّ السنوات بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. ويطول انتظار مستقبل أقلُّ قسوة وفظاعة.

تمرُّ السنوات فتمضي الآمال المُنتظرة واهية أمام سوداوية الحاضر الذي غدا أكثر بشاعة وقهراً من سنوات الحرب التي كان فيها العدو ماثلاً أمام الأعين ببندقية ورصاصة يمكن تفاديها. أما اليوم، فالعدو أخطبوط مستتر بلبوس الجشع والطمع والمصالح والمافيات التي تكاثرت كالفطر في حياتنا، فاغتالت إنسانيتنا التي لم تستطع الحرب بكل قسوتها اغتيالها كاملة، لأننا عقدنا الأمل على غدٍ أكثر أمناً وأماناً وسلاماً، لكننا للأسف لم نجنِ سوى الخيبة والحسرة والتيه الذي يقودنا كل صباح إلى مجاهل لم نكن نتوقّعها بحكم قرارات وإجراءات لم تأخذ بالحسبان قيمة صبرنا على كل ما ابتلينا به من حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل سوى أننا آثرنا البقاء في وطن يبقى عزيزاً وإن جار. نعم، لم نجنِ سوى الوهم بعد أن تركتنا الحكومات المتعاقبة لمصيرنا المجهول الخاوي من كل ما يبقينا على قيد مواطنة تفرضها القوانين ويحميها الدستور.

تمرُّ السنوات بأيامها وشهورها وأمهات سورية المكابرات على وجعهن طيلة سنوات.. تكوي مآقيهن دموع الحزن وصبر الانتظار الذي تنحني أمامه ذُرا جبال الصبر نفسها.. المنتظرات أملاً كان معقوداً على من عليهم الخشوع أمام صبرٍ يتعاظم كل صباح أمام كل فقد أو رحيل أو موت وجوع.. أمهات سورية اللواتي لم يحصدن سوى الخيبة ومرارة الفجيعة والانتظار لم يبقَ لهن سوى الصراخ بأنين مكبوت طالبات الفرج من السماء.. لكن، حتى السماء أصمَّت أذنيها عن أنينهن وصراخهن واستغاثاتهن، بعد أن أصاب الصمم أيضاً حكومات لم تُراعِ ولم تُصغِ سوى لتجّار ومحتكرين وسماسرة وفاسدين أثروا وتسيّدوا على حساب هذا الأنين والقهر والجوع والفقد والموت رغم الحياة!!

العدد 1104 - 24/4/2024