هل بات الإعلام والإنترنيت سمّاً قاتلاً للمتلقي والمستخدم؟؟

وعد حسون نصر:

قديماً كان التلفاز والمذياع من الوسائل الإعلامية الموجّهة لشرائح المجتمع كافة، خاصة الشريحة التي لا تُعنى بالقراءة على اعتبار أن الصحف كانت تعني النخبة المثقفة في المجتمع، لذا اعتبر الجميع أن التلفاز والمذيع بمثابة الأب الثاني، وهي أكثر الوسائل الترفيهية والتعليمية انتشاراً طبعاً من خلال ما يقدّم من برامج سواء للأطفال أو للكبار، والجميل بالموضوع أن هناك فترة مُخصّصة لبرامج الأطفال، أي يجلس الطفل خلال وقت مُحدّد يتلقى فيها الترفيه والتعليم، وكانت أغلب برامج الأطفال على هيئة تعليم وتسلية مثل: كان يا ماكان الحياة.. أبو الحروف.. افتح يا سمسم.. اسألوا لبيبة..حكايات وعبر.. وغيرها الكثير من البرامج والروايات التي تُهذّب سلوك الطفل وتعلّمه العبرة والكلمة الطيبة، وتعرّفه على جسده بصورة لبقة. أما الآن ومع تعدّد المحطات الفضائية وانتشار العولمة والإنترنيت المتوفر بكل مكان، والجوالات التي لا تخلو منها أيدي الكبار والصغار، والتي دخلت من خلالها على حياتنا برامج وأفكار جديدة ربما تكون سمّاً قاتلاً بطريقة بطيئة، وخاصة برامج العنف الموجّهة للأطفال والمراهقين بما تحمله من سلوك عدواني وأفكار شريرة، حتى المسلسلات الموجّهة للكبار من خلال الدراما لا تخلو من المشاهد العنيفة أو اللاأخلاقية، والأكثر سوءاً أن جميع أفراد الأسرة كثيراً ما يتابعون معاً هذه المسلسلات دونما مراعاة لوجود الأطفال، وللأسف ربما الحداثة أفقدتنا قيماً كثيرة، لدرجة أن الكثير من الأهل لا يهمهم ما يشاهد أطفالهم أو حتى يافعوهم أو شبابهم من برامج، لأنهم هم أنفسهم انساقوا وراء حداثة الإعلام والميديا، فالكثير من الأمهات للأسف تستيقظ صباحاً تشرب قهوتها وبيدها الجوال تتصفح فقط أو تُقلّب بمحطات التلفاز لا تدري عن أطفالها أو من معها في المنزل شيئاً، وكأن هذا المنزل بات في الترتيب الأخير من اهتماماتها وأطفالها وزوجها، وحتى حياتها الاجتماعية على أرض الواقع لا مكان لها في الوجود مع دخولها للعالم الافتراضي وزخرفة عالم الفضائيات أيضاً. والكلام ذاته ينطبق على الآباء فالكثير منهم بمجرّد عودته من عمله وتناوله طعامه يأخذ جواله ويضع رأسه به وكأنه يرغب بصم أذانه عن أي حديث جانبي غير الجوال أو التلفاز، لا يريد أن يعلم أخبار زوجته وما جرى معها من أحداث خلال غيابه ولا عن أطفاله، فبات هم الأهل الوحيد أن ينشغل كل فرد من أفراد الأسرة بهمومه بمفردها بعيداً عن الآخرين.

أين الأسرة الجميلة كما عرفناها من خلال ما صوّرها لنا التلفاز بالدراما القديمة بمسلسلات الطفولة في فلونا، أو حتى مسلسلات المساء الجميل كمذكرات عائلية والفصول الأربعة؟ أين الأحاديث المشتركة بين الأبناء وآبائهم وأمهاتهم والرحلات الجماعية ونزهات بيت الجد أيام العطل؟ أين الهموم المشتركة وطريقة إيجاد حلول لها بين الإخوة؟ هل الحداثة بإعلامها والميديا بمحركات بحثها خشّبت عقولنا وجعلت منها آلات تتحرك فقط بما يأمرنا به محرك البحث؟ هل بات الزمن الجميل ومساء الأُسر المفعم بالحب والضحكات والنكات الطريفة فقط بالخيال والروايات ذات الأوراق الصفراء بمرور الزمن، أين ذواتنا، أين دفئنا بالحوار مع أطفالنا، أين نحن من التخطيط لمستقبل أولادنا؟ هل بات هذا كله داخل شاشة الجوال أو التلفاز؟؟

كم هو فعّال هذا السم المدسوس لنا في الإعلام لدرجة أننا كلما سقطنا نحيا من جديد لنرتشف منه جرعة جديدة تزيدنا كراهية وحقداً أكثر!! ولكن لا نموت بل نستمتع بعذاب الموت وسوء طعم السمّ. نعم، لقد شوّه الإعلام ببعض برامجه ومسلسلاته نفوسنا، وزاد التشويه هذا الجوال الذي بين أيدينا وأيدي أطفالنا، أصبحنا غرباء حتى عن ذواتنا، لم تعد فيروز تجمعنا صباحاً على رائحة القهوة، ولم تعد فترة الظهر للراحة والقيلولة بعد غداء جمعنا على طاولة حوارات الأهل السعيدة، حتى المساء لم يعد يجمعنا لنحلّ الوظائف بمشاركة الجميع بالحل ووجهات النظر، وغاب منظر الجدّة تحيك الصوف والأم تصنع الحلويات أو تقرأ رواية والأب الغارق في الحسابات أو القراءة أو حتى استماع الأخبار، غابوا ليس فقط من الواقع، بل أيضا من شاشة التلفاز مع غياب مسلسل السهرة الاجتماعي، ربما التطور وفهمنا الخاطئ له مسح من عقولنا بساطة الحياة، وشوّش عليها بالمحطات الفضائية، لم يعد الإعلام عين الحقيقة، ولم يعد التلفاز الأب الثاني، ومحرّك البحث توقف عند البحث عن الأفلام الإباحية والآكشن وحتى طريقة إيذاء الآخرين، نعم مات الأب الثاني بعد موت الأب الحقيقي للأسرة بسبب إصابته بمرض الانفتاح المغلوط على الحضارات، إذ سقط بداخل جواله وفقد حاسة السمع والبصر لأنه بات داخل تابوت العولمة.

العدد 1104 - 24/4/2024