الديمقراطية ليست قفزة في الفراغ

يونس صالح:

ليست الديمقراطية قفزة في الفراغ باتجاه شكل سياسي مستنسخ، لكنها قبل ذلك وفي جوهر نظريتها وممارستها: مسيرة إنسانية ذات طابع حضاري، من أدنى المستويات الاجتماعية حتى قمتها، ومن ثم تأتي تجلياتها السياسية نوعاً من التكريم لمجتمعات تحسن الاختيار وتتحمل مسؤولياته. بغير هذا التأهيل يرجح أن يكون القفز السياسي نوعاً من المجازفة يصعب تدارك عواقبه السلبية، تماماً كمن يلامس قمة هرم مقلوب، متصوراً أنه بلغ القمة والغاية، بينما الأرجح أن يهوي عليه هذا الهرم المقلوب، وهيهات أن ينال النجاة.

ولعل أخطر ما درجنا على ممارسته في واقعنا، هو أننا نتوهم إمكان قطف أفضل الثمار بأقل قدر من الجهد، وعدم اعتماد مسيرة الألف ميل التي تبدأ بخطوة من أجل الوصول إلى غايات أفضل في الأفق البعيد.

اندفاعاتنا العاطفية وميلنا إلى الاختصار، ليست سمة من سمات حياتنا الاجتماعية فقط، بل هي في كثير من الأحيان نمط من أنماط التفكير، في مسائل لا تجوز فيها العاطفية، ولا الاختصار، ومن بين هذه المسائل تأتي قضية الديمقراطية بلا استسهال ولا تبسيط، وليس بلوغها بالأمر الهيّن، فهي قمة تفكير وممارسة إنسانيين يقتضي الوصول إليها ارتقاءً من أسفل إلى أعلى، تماماً كما في عملية صعود هرم بدءاً من القاعدة إلى القمة.

إن الديمقراطية في مناخ غوغائي يمكن أن تنقلب إلى نقيضها، فينجح من يجيدون تحشيد الجماهير بخطاب تعصبي أو عاطفي فارغ، في الوصول إلى مبتغاهم وإنتاج حالة من الهمجية المجتمعية والسياسية والاقتصادية يصعب تجاوزها أو حتى إصلاحها. لأن ذلك لن يتحقق إلا بثمن فادح، وبأشكال تتنافر مع طبيعة الديمقراطية ذاتها، فالديمقراطية اجتهاد بشري رفيع المقام يتّسق مع سمو الإنسان وحقه في حرية الاختيار.

اتصالاً مع هذه الرؤية ينبثق السؤال عن كيفية الوصول إلى هذه الدرجة من رقي الاختيار وحسن التقدير، وبمعنى آخر: الوصول إلى الدرجة الأعلى قبل قمة الهرم، التي يصبح فيها الوصول إلى القمة- أي شرف الحرية المسؤولة والاختيار الصحيح- مجرد خطوة يمثلها صندوق الاقتراع، لكنها خطوة مبنية على جدارة ارتقاء درجات بعد درجات على منحدر هذا الهرم الصاعد.

فالمسألة إذاً تعني أولاً الحديث عن المتطلبات القاعدية للارتقاء الديمقراطي، تعني ثقافة الديمقراطية على مستوى الأبجدية والأساسيات، تعني التفكير والممارسة الديمقراطيين في حياتنا اليومية المعيشة، تعني جوهر الثقافة المنتجة للديمقراطية، والثقافة المعنية في هذا الإطار ليست ثقافة النخبة ذات الطابع الفكري، بل الثقافة بمعناها الشامل والمتجذر في الممارسات الإنسانية والسلوك البشري داخل التكوينات المجتمعية المختلفة: المدرسة، الجامعة، مؤسسات العمل المختلفة، إنها ثقافة الديمقراطية المنتجة لأنساق متطورة من السلوك، والداعمة للتنمية الإنسانية والاقتصادية وغيرها من وجوه التنمية التي تتسع لتشمل النفع والجمال الإنسانيين على السواء.

لقد أصبحت الثقافة في عالم اليوم قضية استراتيجية، كما يذهب إلى ذلك كثير من المفكرين، والمعروف أن الثقافة مستويان: مستوى أنتروبولوجي، حيث تكون الثقافة تراثاً تطبع الوجدان وينبني عليها السلوك، ومستوى آخر تكون فيه الثقافة شأن نخبة تتداول فيما بينها ثقافة عالمية ذات طبيعة ذهنية في مجملها، وما يعنينا في هذا الحديث من مستوى الثقافة هو المستوى المتجذر في السلوك والممارسات اليومية، دون نسيان مستوى الثقافة لدى النخب، فكلاهما متكاملان.

تعتبر الثقافة إذاً المحرك الأساسي للكيفية التي يتحقق بواسطتها إنتاج المجتمع، وبالتالي تغدو الثقافة وسيلة وظيفتها الجوهرية هي إنتاج الأفكار والمفاهيم الكبرى التي تجعل المجتمع في حركة دائبة، كإنتاج الديمقراطية والدولة والاقتصاد والمفاهيم المتصلة بالسوق ومفاهيم الحرية والمساواة والعدل وغيرها.. وعليه فإن المجتمع ينتج ثقافته، فيما تهندس الثقافة المجتمع، فهناك علاقة عضوية.

وفي هذا السياق يمكن القول إن التسلط وأنساق الاستبداد ليست وقفاً على المظاهر السياسية في حياتنا وحدها، بل هي واضحة أيضاً في علاقاتنا الاجتماعية، بدءاً من البيوت وساكنيها، وصولاً إلى علاقات القبيلة والعشيرة والطائفة وتقاليد بعض المجتمعات المغلقة.

إن إنجاز حال (ديمقراطية) في مدارسنا وبيوتنا هو بداية بديهية لأي صعود ديمقراطي، وهذا الإنجاز لن يتأتّى إلا بجهد ثقافي تلعب فيه النخب المثقفة دوراً تنويرياً، تنويرياً نابعاً من شروط مجتمعنا وطموحه.

إن ثقافة الديمقراطية تحتاج إلى تمهيد ثقافي على مستوى السلوكيات النابذة لكل أنواع التسلط والاستبداد المجتمعيين، ابتداء من رياض الأطفال حتى مؤسسة الزواج ومكاتب الأعمال والدراسة الجامعية.

إن خلق تفكير نقدي يعلّم الحصافة، والديمقراطية، يتطلب مواطنين يتمتعون بالحصافة، فهو إذاً وسيلة ضرورية إذا كان هدفنا مجتمعاً ديمقراطياً.

 

العدد 1104 - 24/4/2024