الشخصية المتزنة تعكس مدى إشباعها العاطفي

يارا حسون:

تُشكّل كل أسرة بُنية الشخصيّة الإنسانية والملامح الرئيسية لأفرادها، عن طريق التربية الأخلاقيّة والجسميّة والصحيّة والنفسيّة والوجدانية، وأهمّ مرتكزاتها الإشباع العاطفي والأمن النفسي والحب والاحترام والاحتواء والتقدير.

لا يقتصر نمو الطفل على الناحيتين الجسديّة والذهنيّة فحسب، فهناك أيضاً النمو العاطفي والإشباع العاطفي منذ نعومة أظفاره، واحتياجاته من الحب والحنان والفهم والتقدير والإحساس بالذات، فهذه جميعها حاجات أساسية تجعل منه إنساناً سويّاً مطمئنّاً، وشخصية متوازنة ومستقرة، قويّة قادرة على المواجهة في كلّ الأمور، على عكس استخدام أساليب غير سويّة في التربية والتعامل، أو ممارسة العنف أو التخويف والكبت والحرمان العاطفي، ممّا ينعكس سلباً على سلوكياته. ومن ثم فإن الأسرة هي المنبع الرئيس الأوّل الذي يرتشف منها الأبناء رحيق الاستقامة أو الاعوجاج.

فالإشباع العاطفي يشكّل درعاً واقياً للسلامة النفسية للطفل خاصةً، والأبناء عامةً، ومن هذا المنطلق أكّدت دراسة متخصّصة أن الحرمان العاطفي وعدم إشباع حاجة الاهتمام والحنان للطفل، وافتقاره للحب وغياب الرعاية من والديه والمحيط، ينبّه لديه تأثيرات سلبية، تؤدي إلى مشاكل نفسية كالاكتئاب، والقلق، والشرود الذهني، واليأس والإحباط، وعدم القدرة على التواصل مع الآخرين، وعدم الثقة بالنفس.

فهناك الكثير من الأبناء الجانحين والعدوانيين كانوا يعيشون ظروفاً أسريّة مضطربة، وكانوا يتعرّضون لأساليب معاملة والديّة متناقضة بين القسوة والتدليل، والحماية الزائدة والإهمال، كما تعرّضوا للعقاب الجسدي (الضرب المُبرح)، فضلاً عن الحرمان وعدم إشباع الكثير من حاجاتهم، وكذلك فإن انشغال الوالدين بعملهما معظم ساعات النهار له أثر على حصول الطفل على حاجته من الإشباع العاطفي والنفسي، وافتقاره للحب الأبوي أحياناً ممّا يؤدي إلى شعور أطفالهم بالخوف والوحدة لعدم التحاور بينهم وبين والديهم.

ذلك ما يبيّن مدى تأثير الحرمان العاطفي على ذكاء الطفل، في حين أن الأطفال الذين يتمتّعون بقدرٍ عالٍ من الاهتمام والحب داخل أسرهم هم أكثر سلامة بدنية وعقلية ونفسيّة، ولديهم قدرة أكثر على تطوير مهاراتهم ويتمتّعون بتوازن نفسي.

إن الإشباع العاطفي حقٌّ من الحقوق التربوية، ومسؤولية تقع على الأم والأب دون استثناء لأحدهما عن الآخر، وفي هذه الحالة يتعيّن عليهما تخصيص بعض الوقت للاستماع لأطفالهم لتتولّد لديهم ثقة كافية للتعبير عن أنفسهم والحديث عن الأمور التي تثير قلقهم، كما أن احتضان أبنائهم أو اللمس على أكتافهم ممّا يزيد من ذكائهم ونموهم الطبيعي، وتقدير مشاعرهم، لأن حضن الأم لا يعوّض وكتف الأب لا يُستبدل، فهذا وقاية من الانهيار النفسي والفراغ العاطفي الذي يتعرّض له شبابنا.

كذلك الحب والقبول حق من حقوقه يُمنح له بغضِّ النظر عن سلوكياته، فالحب لذاته مع الرفض والانتقاد لسلوكياته غير المنضبطة، يُشبع الأبناء عاطفياً ويعدلهم سلوكياً. هذا الاحتواء النفسي العاطفي، هو من أهم متطلبات التربية الواعية. فكلما كان الإشباع أكبر، تقرّبنا من أبنائنا أكثر، ولا شكّ أن لهذا الأمر تأثيراً مباشراً على مستقبل الأبناء واستقرارهم وتوازنهم النفسي والاجتماعي، الذي يصنع منهم شخصية متوازنة قانعة محبّة للآخرين قادرة على التكيّف مع الحياة، تشعر بالأمن ولا تشعر بالاغتراب الاجتماعي. كما أن الإشباع العاطفي لدى الزوجين، القائم على التفاهم والرضا وإدراك كلٍّ منهما مشاعر الآخر يُحقّق علاقة زوجية ناجحة قائمة على الانسجام بين الطرفين، فقدرة الشخص على فهم بيئته تماماً، يدل على الذكاء الاجتماعي، وهو يتطلّب الصبر والمجاملة.

وباعتبار أن الأهمية كبرى للإشباع العاطفي، لابدّ من تقديم الإعداد الكامل للمقبلين على الزواج وتعليمهم كيفية بناء شخصيات الأبناء بناءً سليماً في جوّ أسري هادئ، والعناية الفائقة بتربيتهم، فلا نبخل عليهم في التوجيه والنصح والرعاية. أظن أن دور الأم مهم جداً بالنسبة للإشباع العاطفي لأسرتها (للأب والأبناء) وعليها أن تُحاول قدر الإمكان توفير هذا الإشباع بشكل كافٍ لتغنيهم عن البحث عن العاطفة خارج جدران البيت بحيث لا يشعر الأبناء بالحرمان ولا بالدلال الزائد، ممّا يؤدي إلى خلق شخصية متّزنة لا ينقصها شيء.

العدد 1104 - 24/4/2024