العواطف الأسريّة بين الإشباع، والعوز … رحلةُ بناءٍ وتوازن ..

يارا بالي:

تبقى الأسرة أساس البناء المجتمعي ودعامته المتينة، فمنها تنطلق أولى بذور الإبداع، وعليها تقوم الحياة السليمة، فالمجتمع القوي المتماسك مرهون بأسرة سوية استطاعت أن تصل بأطفالها إلى أهدافهم، وترسم واقعاً أفضل ومستقبلاً أفضل. من هنا وانطلاقاً من أهمية الأسرة في المجتمعات، كان لا بدّ من العناية بما يصلح العلاقات داخلها، وينمّي الروابط الأسرية فيها.. وتأتي العاطفة في مقدّمة الأجندة. فشخصية الطفل تُبنى في الخمس سنوات الأولى من عمره، ويبدأ بعدها حصاد الزرع، وجني النتائج، وتظهر آثار التربية، فإمّا تربية مبنية على الحب تُخرج إنساناً ناجحاً للحياة، وإمّا تربية يسود فيها العنف والخشونة، فتفسد هذا البناء، ويقع الطفل فيها ضحية للقسوة والفراغ العاطفي المُمارس عليه من الأبوين. فما أسباب هذا الجوع العاطفي في المنظومة الأسريّة؟ وما أضراره؟ وكيف السّبيل للوصول إلى بناء أسريّ سليم يسود فيه التناغم والمحبّة، فيتحقق الإشباع العاطفي؟

إذا نظرنا في المُسبّبات، سنجد أن أهمها وأبرزها يكمن في انشغال الأب والأم عن تربية أطفالهم بالعمل خارج المنزل لتحسين أوضاعهم، ورفع المستوى المعيشي للأسرة، فنجد الأب غائباً معظم الوقت بعيداً عن أسرته، ويعود وقد أعياه التعب، والأم غالباً ما تكون عاملة تساند الزوج في المصروف. في حين لعبت التكنولوجيا دوراً سامّاً في إهمال الأهل لصغارهم، فكثيراً ما نجد الأبوين ولاسيما الأم غير العاملة خارج منزلها، مشغولة في جوّالها، تمارس النشاط الرقمي بمواقع التواصل الاجتماعي، أو تتابع التلفاز لساعات طويلة، متناسية واجبها المقدّس اتجاه أبنائها، وفي هذا السياق وجب عدم التغافل عن المشاعر الرقمية الإلكترونية الّتي باتت تحلُّ محلَّ المشاعر الحقيقية الدافئة، فنجد الأسرة والأصدقاء في جلساتٍ من السّمر التقني، تجمعهم صور الموائد، والنشاطات، وأعياد الميلاد والحفلات.. فلتكون الإنسانية بذلك قد وقعت في فخ المظاهر الكذّابة الخادعة، ويغدو الأفراد يصوّرون الحياة، ولا يعيشونها، على عكس الأيام الخوالي حيث البساطة والعلاقات الاجتماعية والأسريّة الصّادقة. ومن الأسباب المهمّة لهذا الشُحّ العاطفي الأسري، توتّر العلاقات بين الأب والأم، وكثرة الخلافات والمشاحنات، ممّا يخلق جوّاً من التنافر، وعدم التوافق بين أفراد الأسرة الواحدة، وينعكس سلباً بالدرجة الأولى على الأولاد. ومن جميل ما قيل في هذا الأمر: إن أفضل هدية يقدمها الأب لأطفاله هي أن يحبَّ أمهم. وإذا نظرنا في الأضرار الحاصلة بسبب القسوة سنجد أن أوّلها وأخطرها هي فقدان الأطفال ثقتهم بأنفسهم، والإحساس الداخلي بأنهم لا يستحقون الحب، إضافة إلى الشعور بالنقص والاحتياج وما قد يوّلده من عدوانية وعنف وعناد وعقد نفسية تظهر مع التقدّم في العمر، كما ينتج هذا الشُحّ في العاطفة، حالة من الخضوع وعدم الاستقلالية في شخصية الطفل، كل هذه المخاطر قاطبة ستخلق إنساناً ضعيفاً غير قادر على الإنتاج، والإبداع، واتخاذ القرار بحرية.

وهنا وبعد الحديث عن الأسباب والأضرار، وجب التحدّث عن الحلول المطروحة لتفادي هذه المخاطر، وخلق بيئة سليمة للطفل.. نطرح أوّلها ألا وهو الحب اللامشروط للطفل، أي تقديم المحبة لأجل المحبة، دون أي توقعات، أو شروط، أو قوالب مرسومة للطفل منذ صغره، فإذا نفذها أخذ شعور الحب من والديه، وإذا لم ينفذها عومل بقسوة وعنف، لتماديه برسم أفكاره وأحلامه الخاصة، البعيدة عن أحلام المربين. إذا تمعنا أكثر في أسس التربية السليمة، سنجد أن أفضل التربية تلك الّتي تقوم على الصراحة بين الأهل وأولادهم، فكأنهم أصدقاء يتبادلون تفاصيل أيامهم وهمومهم، بلا خوف من تأنيب، أو عنف لفظي، أو جسدي من قبل الأبوين، يترسّخ مع هذه الصراحة الإحساس بالأمان، والثقة بالنفس في قلوب الأطفال، هذا الإحساس الثمين الّذي لا يوازيه أيُّ إحساس في الحياة، وإذا فقده الأبناء في الآباء سيبحثون عنه خارج نطاق أسرتهم، وهنا تقع الخطورة. فالتربية مهمة صعبة لا تأتي بالفطرة، وإنما تحتاج إلى تعلّم والتزام، وتدريب للنفس على سلوكيات طيبة يراها الأبناء في الأهل، فيقتدون بها، وبهذا تكون التربية في المقام الأول تربيةً للنفس ثم للأطفال، لأنّ العِظة الحقّة لا تكمن في النصح اللفظي، وإنما هي في التطبيق العملي لخير الأفعال أمام الصغار. وكما قال جبران خليل جبران:

(أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.. ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم. أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكاراً خاصة بهم. وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادكم. ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم. فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا في أحلامكم. وإن لكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم. ولكنكم عبثاً تحاولون أن تجعلوهم مثلكم).

العدد 1104 - 24/4/2024