جامعة تشرين.. دروس خصوصية في الطب البشري!

صفوان داؤد:

جامعة تشرين واحدة من أهم الجامعات الحكومية في سورية، أُنشئت عام 1971 باسم جامعة اللاذقية، ثم غُيّر اسمها إلى جامعة تشرين تمجيداً لحرب تشرين. تضم الجامعة كليات ومعاهد عليا لتخصصات علمية مختلفة، وعدداً من مراكز البحوث، ومدينة جامعية كبيرة ومختلف أنواع الخدمات الجامعية، ويتبع لها عدد من المراكز الطبية مثل المشفى الجامعي ومدرسة التمريض. بلغ عدد طلابها وفق إحصائية عام 2012 نحو 70 ألف طالب من مختلف الاختصاصات. في عام 2013 حققت لأول مرة المركز الأول من بين الجامعات السورية في التصنيف العالمي للجامعات متجاوزة جامعة دمشق التي احتفظت بهذا المركز منذ تأسيسها. شكّل التعليم في كليات الطب البشري في جامعة تشرين، كما بقية الجامعات الحكومية الأخرى، وعلى مدار عقود عدة، جوهرة التعليم في سورية، لما كان لهذه الكلية من دور كبير كمصدّر لتخريج الأطباء الأكفاء، ليس فقط إلى العالم العربي وإنما على مستوى العالم، ونخص بالذكر هنا كيف كان الأطباء السوريون متفوقين حتى على أبناء تلك الدول من أهل الاختصاص، ووجدنا تضحياتهم التي شاركوها مع زملائهم من الجنسيات الأخرى من الكادر الطبي في مواجهة وباء كورونا.

لكن ظروف الحرب والأزمات المتتالية غيّرت الأوضاع بشكل جذري في سورية، وأصبح التعليم الطبي على شاكلة التعليم في الكليات الأخرى، في انحدار مستمر، لدرجة أنه وفي ظاهرة جديدة لم تكن مألوفة من قبل، انتشر ما سمّي: (دروس خصوصية ومعاهد خاصة لطلاب الطب). ترافقت هذه الظاهرة مع تعديلات أقرّتها وزارة التعليم العالي عام 2016 اعتمدت من خلالها آلية (السنة التحضيرية للقبول الجامعي في الكليات الطبية)، وتقول وزارة التعليم أن الهدف من هذه السنة هو (ضمان جودة مخرجات التعليم) و(الحاجة إلى تحديث سياسة القبول الجامعي بما يتوافق والمعايير العالمية للقبول). لكن لم تأخذ وزارة التعليم بالحسبان تأمين الملحقات اللوجستية لهذا القرار؛ وهكذا بعد أربع سنوات من هذا القرار وصل عدد الطلاب هذه السنة إلى نحو ألفي طالب، في حين أن أكبر المدرجات في الجامعة لا يتسع لأكثر من 30 إلى 40 بالمئة من هذا العدد. نشأت المعاهد وانتشرت ظاهرة الدروس الخصوصية في الطب البشري، لأنها أصبحت المنفذ الوحيد المُتاح للطلاب لتبقى في جو المنافسة. لكن هذا المنفذ له تكلفته الاجتماعية والاقتصادية، وفي ظل التدهور العام المعيشي للمواطنين، ومع تكلفة تلامس المليون ليرة للطالب، سواء للمعهد أو للدروس الخصوصية، تفتح السنة التحضيرية الباب أمام التمايز الطبقي، مضيفةً في الوقت نفسه أعباء لا تُحتمل على أهالي الطلاب غير الميسورين. كما تفتح قناة جديدة من القنوات التي لا تنتهي من اقتصاد الظل، ذلك أن المحاضرين في تلك المعاهد هم نفسهم المحاضرون في كلية الطب!

ربما في ظروف أخرى يمكن أن تكون السنة التحضيرية مناسبة، لكن في سياق الأوضاع التي تعيشها سورية والوضع التعليمي العام المتردي، تشكّل السنة التحضيرية خياراً غير مناسب إطلاقاً، إذا كانت ستؤدي إلى حرمان أبناء الفقراء من تحقيق أي طموح دراسي، وهذا يتنافى حتى مع الرسالة المُعلنة لكلية الطب في سورية والتي تقول: (… كما تسعى للحصول على المعارف العلمية التقنية وتطبيقها على نحو يتيح الوصول إلى تنمية الثروة البشرية وتحقيق جودة التعليم والتعلم في جميع المجالات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الجمهورية العربية السورية).

إن القرارات غير المدروسة في السياسات التعليمية هي سبب حاسم في تناقص جودة التعليم وأعداد حاملي المعرفة، وبضمنهم خريجو كلية الطب البشري، وتؤثر بشكلٍ مباشر على النمو (النوعي) لعملية الإنتاج في سورية، الذي يمثل 70 إلى 75% من مؤشر النمو الإجمالي للاقتصاد. ويعتبر رأس المال الفكري والبشري المحرك الأساسي لمجمل عوامل الإنتاج في النمو (النوعي)، وهو جوهر اقتصاد المعرفة. إلا أن غياب التخطيط وتطور ظاهرة التمييز في التعليم سيؤدي في نهاية المطاف إلى تأخر كبير في مجاراة الركب العالمي للعلم.

في منتصف الثمانينيات ذكرت صحيفة (دير شبيغل) الألمانية، أن سورية تلعب دوراً يعادل عشرة أضعاف حجمها على الساحة الدولية، وسماها أحد الدبلوماسيين الكبار في البيت الأبيض آنذاك بأنها أكبر دولة صغيرة في العالم. من أسّس لهذا الدور؟ طبعاً هي مجموعة من العوامل، لكن أهمها كان الاهتمام بالعملية التعليمية والتدريب وتأهيل الكوادر. إذ تؤسّس النظمُ التعليمية الشروطَ الموضوعية لدخول الأجيال الناشئة إلى السوق بنجاح. وبحسب مجلة البرلمان العربي (العدد 82) استقبلت كل من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا في بداية الألفية الجديدة، 75% من المهاجرين العرب، وفي بريطانيا وحدها شكّل الأطباء العرب حوالي 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها.

هناك ضرورة قصوى لا تقبل التأجيل لمراجعة السياسات الحكومية في سورية في مجال التعليم، وتحديد تصور واقعي وموضوعي لمواردنا البشرية وغير البشرية المُتاحة، ووضع أسس أكثر انفتاحاً على العالم الذي بات يسبقنا كل يوم بخطوة.

التعليم والعلم بالنسبة للمجتمعات هو أساس التقدم الحضاري، وهذه بديهية. لذلك نرى بوضوح أن أحد أهم الفوارق بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة هو نسبة التعليم وجودته، ولا تبتعد القوة الاقتصادية والعسكرية وقوة العدالة وقوة النسيج المجتمعي كثيراً عن هذه المقارنة. ولكن مع الاستمرار في اتباع السياسات التعليمية نفسها، القائمة على بنية إدارية وبحثية متخلفة، وعدم الاستقلال السياسي للجامعات أو على الأقل حياديتها السياسية، فإن مظاهر انحطاط أكاديمي من قبيل دروس خصوصية في الطب البشري، سنجدها مألوفة في جامعات سورية أخرى مستقبلاً.

العدد 1104 - 24/4/2024