صناعة الأسمنت في حماة تفتك ببلدة (كفربهم)!

فادي إلياس نصار:

وضعت المنظمات العالمية المعنية بالبيئة صناعة الأسمنت على رأس لائحة الصناعات الملوثة لكوكبنا، ذلك أن هذه المصانع تنتج كميات كبيرة من الغازات السامة والغبار المسرطن، فجميع الدراسات تؤكد أن إنتاج طن واحد من الأسمنت يؤدي إلى انبعاث ما يقارب 900 كغ من ثاني أوكسيد الكربون، و2,2 كغ من أول أكسيد الكربون، (لها دور رئيسي في تسخين جو الأرض)، فيما تبلغ نسبة الانبعاثات الناتجة من صناعة الأسمنت نحو 5 بالمئة من مجموع الانبعاثات الناجمة عن النشاطات البشرية كلها.

وتنتج مادة الأسمنت، عن احتراق عدد من المواد الطبيعية مثل الحجارة الكلسية، الغضار، الجير الكلسي، بدرجات حرارة عالية، وعبر مراحل العمليات الإنتاجية (التفجير، التعدين، النقل، التكسير، الطحن، الحرق، التبريد والتعبئة)، ونتيجة عملية الاحتراق تلك تنبعث من مداخن المعامل العملاقة عدة ملوثات، تتبع تراكيب المواد الخام المستعملة أو نوعية الوقود المستخدم. ومن تلك الملوثات الخطرة جداً على الصحة والبيئة عموماً نذكر غاز ثاني أوكسيد الكبريت (SO2)  الذي يبقى في الجو لفترة 4 إلى 25 يوماً متحولاً بعدها إلى غيوم من حامض الكبريت الذي يؤدي إلى تشكّل الأمطار الحمضية، كذلك تنبعث من المعامل مواد سامة مثل الزئبق والكادميوم، إضافة إلى أنواع عديدة من الغبار المحمول PM10 بأقطار صغيرة (من 20 وحتى 100 ميكرون)، وبعضها أصغر من 10 ميكرون، وتصل جميعها إلى مسافات بعيدة (15 كم) عن المصنع، وهي ذات تأثير خطير على صحة الانسان والحيوان والنبات، فعلى سبيل المثال ينتج عن استنشاق غبار الأمينت بكل أحجامه، تليف خطي يصيب الشعيبات التنفسية والرئة، ويتطور هذا التليف لينتهي إلى سرطان الرئة المعروف.

وينتج عن عملية الاحتراق تلك أيضاً غازات سامة أخرى، كأكسيد النتروجين NO وثاني أوكسيد النتروجين NO2 (أحد أهم مسببات الأمطار الحامضية)، وتتحول أكاسيد النتروجين بمجرد دخولها الغشاء المخاطي للجسم البشري، إلى حمض الآزوت الذي يفتك بالجهاز التنفسي، كما تلعب اكاسيد الكبريت دوراً أساسياً في تدمير طبقة الأوزون، فثاني أوكسيد الكبريت تحديداً يقوم بتدمير طبقة الأوزون محولاً إياها إلى أوكسجين.

أما استنشاق غبار الأسبستوس المنبعث من مداخن مصانع الاسمنت، فيؤدي إلى الإصابة بأمراض خطيرة، فيما يسبب استنشاق غبار أوكسيد السليسيوم أو السليس الحر (sio)، وهو عبارة عن جزيئة قطرها أقل من (5 ميكرو)، مرض تصون الرئة (silicose).

ويرتفع الحد الأعلى المسموح به عالمياً للغبار المنبعث من صناعة الأسمنت في سورية، كما هو الحال في إيطاليا وأستراليا، وهذا يعود إلى أن مصانع الأسمنت فيها قديمة ولم يكن هناك تشدد من جانب الحكومة تتعلق بالبيئة.

وتوجد في محافظة حماه كتلة من معامل الأسمنت (تضم أضخم ثلاثة معامل أسمنت في سورية)، تستخدم جميعها مادة الفيول، ذات المحتوى العالي من الكبريت، كوقود أساسي لتشغيل الأفران التي تتم فيها عملية حرق الأتربة والكلنكلر، تلك العملية التي ينجم عنها انبعاثات غازية وغبار كثيف، ما جعل نسبة التلوث في المحيط المجاور لمعامل أسمنت حماه (بلدة كفربهم مثالاً) تتجاوز الحد المسموح به من منظمة الصحة العالمية.

وفي هذا الإطار، يقول الدكتور فادي شموط (وهو طبيب مختص مخبري): (نحو 20 بالمئة ممن يعيشون بجوار معامل الأسمنت، وفي دائرة قطرها 20 كم، يعانون من الربو القصبي، التهاب القصبات المزمن، السعال التحسسي، وأن حالات السرطان أكثرها ابيضاض الدم وسرطان الثدي وأورام خبيثة في الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي، وأن عدد الحالات السرطانية في تزايد، ففي بلدة كفربهم وحدها التي تقع في دائرة سكنية قطرها 15 كم، عن مجموعة معامل أسمنت حماه الثلاثة، ظهرت نحو 100 حالة مرضية.

وقال الدكتور نزار نصار (وهو مختص بالتصوير الشعاعي التشخيصي): لقد تجاوز عدد الحالات التي تم اكتشافها من خلال التصوير الشعاعي وبالأمواج فوق الصوتية (الإيكو)، مئة حالة، معظمها مصاب بسرطان الغدد اللمفاوية (الليمفوما) وبعض الحالات مصابة بمرض تحجر الرئة (السيليكوسيس) (بالإنجليزية (Silicosis)‏. وأكد الدكتور نصار أن السبب الرئيسي لمثل هذه الأمراض يعود بالدرجة الأولى إلى استنشاق مادة (الاسبيستوز) التي تبثها مداخن معامل الأسمنت الثلاثة في أجواء البلدة.. ويضيف قائلاً: للأسف العلاج شبه مستحيل في حالات مرضية كهذه، وقد خسرنا الكثير من خيرة أهالي البلدة بسبب التلوث اليومي الفظيع، وأقول هنا فظيع لأنه مدمر حقيقي لكل أشكال الحياة.. علماً أن مطالباتنا مستمرة ودائمة وعلى جميع المستويات.. لكن ليس من مجيب.

النبات أيضاً ضحية!!

عن الآثار السلبية للأغبرة الناتجة عن معامل الاسمنت يقول المهندس الزراعي إبراهيم إبراهيم إن (الغبار المنبعث من المعمل يؤدي إلى انخفاض في انتاجية بعض المحاصيل الزراعية (القمح، الشعير، الخضروات بانواعها…الخ)، ونتيجة لترسب الغبار عليها، تتكون طبقة ناعمة تؤدي إلى سد مسامات الأوراق (النباتات الصغيرة او الاشجار المثمرة) فيؤثر على عددها ووزنها ومساحتها، كما يؤدي إلى موت أجزاء من الشجرة أو موت كلي للنباتات ذات الأوراق العريضة، إضافة إلى أن غبار الأسمنت بكل أشكاله وأحجامه، يسبب اختلالاً في الدورة الزراعية)، ويضيف إبراهيم قائلاً: (لقد لاحظنا أن التربة الزراعية في بعض المناطق القريبة من كتلة معامل الأسمنت قد أصبحت غير صالحة لزراعة أي شيء).

السؤال الذي يطرحه أهالي البلدة ونحن معهم، مع علمنا أن هذه الصناعة تعتبر عصب الاقتصاد الوطني، هو: أليس من حلٍّ جذري لدى الحكومة يمكنه إخراج الزير من البير وتخليص البلدة من التلوث الصناعي؟ أم ستبقى بين مطرقة الفقر وسندان التلوث المميت؟!

مَن يعِش يرَ.

العدد 1105 - 01/5/2024