معاناة الربّة الأم

حسام محمد غزيل:

الأنثى في الحضارات القديمة وصلت إلى درجة الإلوهية، وامتُدِحت عبر التاريخ بخصوبتها وقدرتها على بعث الحياة. شُبِّهت بكل الرموز القديمة: الشمس، الأرض، الشجرة، ورُمِز لها منذ عصور ما قبل التاريخ بـ (الربة الأم)، فكل مظاهر التكاثر تحظى بصفة أنثوية طاغية مبعثها الخلق والتجدّد. لكن أغلبنا يتجاهل انعكاسات عملية الولادة على الأنثى، مشاعرها، دواخلها جسدياً، حسياًّ، افتقادها للكثير منها.

قبل الخوض فيما أريد الحديث عنه، لابدّ من التعرّف قليلاً على الطبيعة التي تصيب الأنثى بعد الولادة: – تُعاني معظم الأمهات الحديثات من (اكتئاب ما بعد الولادة) للطفل، الذي يشتمل على تقلُّبات في المزاج ونوبات من البكاء والقلق وصعوبة في النوم. ولا يُعدُّ اكتئاب ما بعد الولادة خللاً أو ضعفاً في الشخصية. في بعض الأحيان تكون ببساطة من مضاعفات الولادة، وتختلف علامات الاكتئاب بعد الولادة وأعراضه، فتتراوح ما بين الطفيف إلى الشديد، وقد تتداخل في النهاية مع قدرة الأم على العناية بطفلها والتعامل مع المهام اليومية الأخرى.

عادةً ما تظهر الأعراض في غضون الأسابيع القليلة الأولى بعد الولادة وهي ربما تتضمن: الشعور بالاكتئاب أو التقلُّبات المزاجية الحادّة مثل الإفراط في البكاء وصعوبة التعلّق بطفلكِ والابتعاد عن العائلة والأصدقاء وفقدان الشهية أو تناول المزيد من الطعام بشكل يفوق المعتاد، وعدم القدرة على النوم (الأرق) أو النوم لفترات طويلة، إضافة إلى التعب البالغ أو فقدان الطاقة، قلّة الاهتمام ونقص الاستمتاع بالأنشطة التي كانت تبعث على المتعة، التهيُّج الشديد والغضب، الخوف من ألاّ تكوني أمّاً جيدة، أو العجز، انخفاض القدرة على التفكير بوضوح، أو التركيز، أو اتخاذ القرارات، التملمُل ونوبات القلق أو الهلع الشديدة، أفكار إيذاء النفس أو إيذاء الطفل، تكرار أفكار الموت أو الانتحار، وربما يستمر اكتئاب ما بعد الولادة لعدة أشهر أو لمدة أطول في حالة عدم علاجه. فعملية الولادة تشبه دورة خصوبة الأرض والطبيعة وتحتاج للرعاية لتحفظ قدرتها على الحياة والعطاء، مثلما يُجدّد الفلاح رغم بساطته الكثير من الوسائل ليحافظ على خصوبة الأرض والشجر، ويستشعر لأجل ذلك الأرض روحاً تحتاج للرعاية والاهتمام، بينما يقف المجتمع بكليته والرجل بخصوصيته عاجزاً عن إعطاء الأنثى القدر الذي تحتاجه من الرعاية لتتصالح مع كيانها من جديد، أن تهب دون شعور مؤلم.

قد يقول البعض إن شعور الأمومة كافٍ لها، وقد يعتبره البعض: (وزيادة عليها، شو بدها أكثر؟!)، وقد تتعامل الأنثى مع جنسها بالطريقة ذاتها، فنسمع التأفف والمقارنة والأحكام الظالمة بدلاً من أن تكون أكثر وعياً وإدراكاً باحتياجها واحتياج من حولها (الأنثى الحماة (أمّ الزوج) مثلاً).

الإنسان الذي جُبل على المشاعر منذ الخليقة يقف عاجزاً عن الاكتفاء أمام رغبته بأن يُحتوى كما يحتوي، قد يكون هذا من أهم الأسباب التي تُحدِث شرخاً مجتمعياً ضمن كيان الأسرة، رغبتها بأن تُحتوى، إحساسها بعدم الإنصاف، شعور الخذلان كمن وصل إلى نهاية السباق وقد بذل كل ما لديه ليكتشف أن الجميع رحلوا وعليه أن يكمل وحيداً.

لا شكّ أن طغيان النهج الذكوري على الطبيعة ورغبة الإنسان بالتوسع والسيطرة أضْعَفَ مع الوقت إحساس البشرية بجوهر الأنثى، فلم تعد دورة حياتها ذات معنى كواقع ما حصل عندما تعامل الإنسان مع الأرض بالرغبة نفسها فأنكر على الطبيعة دورتها، وحاول التدخل فيها محاولاً السيطرة عليها.

وتظلُّ الأنثى سراً عصيّاً على الفهم لمن أجهد نفسه في المحاولة، مطواعاً لمن عرف لمس شغف القلب وتفهّم طبيعتها. كل ما أرجوه في ختام مقالتي أن تجد هذه المتسابقة ولو ظلاً واحداً بانتظارها يجعلها موقنةً بأن هذه الحياة بكل ما فيها تستحق المشاركة.. ولا بدّ من التأكيد على ما للإعلام من دور في كسر نمطية صورة المرأة في المجتمع وخلق وعي كامل وآليات للتفاهم والحوار والمعرفة، لا ترسيخ الصورة الدعائية ممّا يزيد سلباً إحساسها بالاغتراب ضمن المجتمع أو يدفعها للتعامل ضمن منهجية تُراد لها غير نابعة من جوهرها. من الضروري جداً أن يأخذ الاعلام دوره التوعوي الاجتماعي بوعي ومهنية أكبر.. على أمل ذلك سنظلُّ نكتب ونجرّب إلى أن نصل إلى صيغة ترقى بالتعامل بيننا نحن البشر وتحترم خصوصية ما نعيشه من تجارب.

العدد 1105 - 01/5/2024