حياة مسبقة الصنع

غزل حسين المصطفى: 

باغتتني إحدى الجارات أثناء زيارتها لنا لتقول لي: رحم الله جدّتك، كانت تعجن وتخبز، ولها من الأطفال ما يزيد عن العشرة، ومع ذلك لم تفارق الأرض ومواسم الزراعة، أكانت حديديّة التّكوين! وأنتنَّ إناث هذا الجيل خُلقتنَّ من طيب ومسك، تستصعبنَّ المسؤولية، تؤجلنّ الزّواج بحجّة الدراسة ومن دراستكنَّ لم أرَ فارقاً عظيماً في شكلِ أطفالكنّ أو نمطِ حياتكنَّ، كلنا نمارسُ الواجبات ذاتها(شو عَ راسكن ريشة يعني… جيل آخر زمن..الله يجيرنا).

لم أدرك تماماً هل كان الكلام إدانة واضحة لي تعقيباً على إجاباتٍ كنتُ قد أسلفتها، أو أنها أرادت أن تُعبّر عن كلّ ما يختلج في نفسها تبعاً لمشاهداتها.

في كلا الحالتين لا يهم، أجبتها بمنتهى الهدوء:

إن كان الشقاء يُخدّد وجنتي جدّتي وأسلافي، أينبغي عليَّ أن أخلع ثوب النعمة عن نفسي حتّى أذوق طعم الحياة المرّة مثلهنَّ!

لو كانت جدّتي من أبي رحمها الله على قيد الحياة، هل كانت سترفض الغسالة الذكية تقديساً منها لتعب جدّتها وتنكّبُ على الأرض برفقة إناء نحاسي تعيد تنظيف الملابس!
لو أن جدّتي من أمي كانت تدرس في الجامعة، هل كانت ستتنازل عن تحصيلها العلمي كُرمى لفارسٍ مجهول الهوية أتى ليحملها إلى منزله، فتغدو الشهادة في يمينها شهادة ميلاد لخمسة أطفال عوضاً عن أخرى جامعية!

إن كانت جدتي بارعة في صناعة الخبز، فأنا اليوم أصنع (البان كيك، والكب كيك، والفوتشيني والبيتزا).

إن كان مجد الأنثى في غابر الأزمان التي تقصدين أن تكون الودود الولود فتنثر في دارها من الأطفال ما استطاعت إليه سبيلا، اليوم الموضوع تعدى ذلك تبعاً للظرف والمجتمع وحالة الانفتاح والتقدم الفكري والثقافي إضافة لفكرةٍ مهمة، اليوم بطفلين لا ثالث لهما تدابير الحياة لا تكفي فكيف بعشرة!

كما أن النساء على مرّ الأيام كانت تعمل على صناعة مجدها لم تلتفت لكونها مرأة فقط.

هل من المفترض أن أعيد تكرار شريط حياة أسلافي لأكون على صواب!
إذاً ماذا عن عصرٍ أعيش فيه وأنتمي لحقبته الزمنية!

عزيزتي، مسار الحياة يدور في ذات الدائرة، ولكن في عنوانه الرئيسي لا في محتواه وتفاصيله، مجدُ الأمسِ باتَ اليوم فعلاً روتينياً، وقد نجد غداً روبوتاً آلياً يقوم بالمهمة، ورغم هذا لا يمكننا إطلاقاً أن ننكر ما كان، لا يقتصر كلامي على الأعمال المنزلية وإنما يشمل كل مناحي الحياة، إذ انتقلنا من المقايضة ومساكب الخضرة المنزلية إلى تجارة وصناعة بل ومدن صناعية، وهذا لا ينطبق عليَّ بوصفي أنثى، كذلك الذكور، صدقاً سنكون في كارثة من أمرنا لو وضعنا رسماً مسبق الصنع لحياتنا وتفكيرنا وأنماطه.

بالمختصر قد تُلخص كل الأفكار التي قلتها بقول متداول لعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه (لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).

العدد 1104 - 24/4/2024