تقديم المطروق والنمطي عبر وجوه شابة ليس تفعيلاً لدور الشباب

سامر منصور: 

مُطربة ذات شهرة محدودة تحفر الكوسا في سهرة العيد الماضي على شاشة أشهر قناة سورية خاصة إرسالها من دمشق. موجة من البرامج السطحية والسخيفة عبر شاشة سورية دراما في الموسم التلفزيوني لرمضان الماضي، التهريج، المباشرة والأفكار المُكررة واجترار التصورات النمطية الشائعة والابتذال والسماجة والشعبوية بأمقت صورها. كل هذا من إنجازات الدماء الجديدة خلال الكثير من البرامج التلفزيونية والمهرجانات السينمائية والشعرية والقصصية أعدت لها وقدمتها فئة الشباب ليأتي ضخّ الدماء الجديدة في هذه الميادين دون جديد، وإنما محاولة تقليد مُبتذلة للحالة الكورالية وللأنماط السائدة في تناول المسائل الوطنية والاجتماعية. كل ما هنالك وجوه شابّة تُكرر ما سمعناه ورأيناه من الأجيال الأكبر، ولكن بصورة مُسطّحة تنمُّ عن ضحالة صادمة في الثقافة. ولمبلغ التفاهة في جلِّ ما تمَّ تعويمه ممّا قدّمه الشباب كدْتُ أنسى المُبدعين الشباب الحقيقيين أصحاب الثقافة العميقة والرؤية والإبداع المُدهش والقلم المسبار الذين أحتكُ بهم والذين لا يقلون شأناً معرفياً ورهافة إنسانية وحسّاً وطنياً عن أيّ جيل شاب في أيّ بلد مُتقدم.

إن ما نُسميه مستقبلاً لا يزال مستمراً، وإنه الشيء الوحيد الأكثر اتساعاً من التاريخ كما يقول كوستاس اكسيلوس، وبالتالي لا يمكن تصور أمة لا يملك الجيل الجديد فيها ما يزيد عمّا يملكه الجيل الأسبق مهما تمّ تعويم النماذج المُسيئة بقصدية أو دون قصد. وممّا أؤمن به وعن احتكاك وتجربة هو أن جُلَّ الجيل المُتقدّم في السن من الإعلاميين والسينمائيين وغيرهم، هم عبيد لجيوبهم ولمصالحهم الشخصية، ويُمارسون التكريس لحالة طوباوية تجسد فصاماً حين التطرّق إلى القضايا الوطنية ليُحرزوا مكانة متقدمة في الحالة القطيعية السائدة بامتطائهم للمفاهيم والتصورات الرائجة لتحقيق الشهرة والقبول السريع والمُستدام لدى العوام وأصحاب القرار في المؤسسات الرسمية، والتي تُعتبر المموّل الرئيسي لجلِّ الأعمال والأنشطة في تلك الميادين. لكن الصدمة بالنسبة لي هي أن يتمَّ تعويم نماذج مُخزية من الشباب عبر الواسطة وتقديمهم كتجسيد للشباب السوري وللدماء الجديدة، ليتمّ سخط المسخوط وتسطيح السطحي عوضاً عن التحديث والارتقاء!

إن ضخّ الدماء الجديدة بمعنى ترك المجال لها لتأخذ دورها الطبيعي في مضمار ما هو سيرورة وصيرورة لذلك المضمار، فلا تحديث دون إدراك ووعي بالمُتراكم المعرفي ثم السعي صعوداً في الرؤيوية والدلالة المُحفّزة والمُعبّرة. فالتجديد هو حين يورق الجذر، وأتفق إلى حدٍّ ما مع ما يقوله أوكتافيو باث: “الحداثة ليست خارجنا إنها في داخلنا، فيكفي أن يتسم الشباب بالثقافة ويعملوا بعفويتهم وتلقائيتهم ليحدثوا..” لكن المشكلة هي في سعيهم لتحقيق القبول لدى الأجيال الأكبر التي ينتمي إليها أصحاب القرار في كل المؤسسات الرسمية حيث الأقدمية الحزبية تلعب دوراً في الوصول إلى المناصب المفصلية، وهذه الأقدمية قد لا تتحقق في مرحلة الشباب. وعن نفسي أطالب بمحاكمة كل مسؤول وافق على إنتاج أفلام أو برامج تافهة لا تمتلك أيّة قيمة مُضافة ولا تراعي أبجديات العمل الفني وأُسسِه الأولية، بذريعة تمكين الجيل الجديد وتركه يُجرّب.. فكما يقول بابلو بيكاسو: (عليك تعلّم القواعد كمُحترِف كي تكسرها كفنان).

أمّا ما حدث في الكثير من الحالات هو تركٌ للشباب ليفعلوا ما شاؤوا عوضاً عن التواصل والتعاون والتكامل بين الأجيال لانجاز الأفضل. كي نكون مُنصفين لا بدّ من الإشادة بأبرز ما قدمه الشباب المُثقف والإشارة إليهم بالبنان. فقد ضمّ مشروع دعم سينما الشباب الذي اضطلعت به المؤسسة العامة للسينما قلّة من الأفلام المُميّزة وفق أرقى المعايير كفيلم (خرزة زرقا) وكذلك العرض المسرحي (ستاتيكو) الذي قُدِمَ في عدد من العواصم العربية وحصد جوائز عربية، وكان منطلقه من هنا، من المؤسسة العامة للمسارح والموسيقا.

ومن النماذج الرائجة والمُبهرة من الشباب المُثقف الذين أخذوا زمام المبادرة وحققوا بأبسط مقومات العمل ما عجزت مؤسسات عربية عن تحقيقه الستاند أب كوميدي أحمد مساد، والكاتب السوري يسر دولي عبر البرنامج الناقد الساخر(صفر) الذي يتضمّن فيديوهات تحفيزية توعوية للشباب العربي. إنه نمط جديد من البرامج بالنسبة لنا كعرب استثمره شُبّان عرب على أفضل وجه ونجحوا في جعله جزءاً من حياتنا ورافعة لوعينا الجمعي وفق روح ومتطلبات العصر في مجالات التواصل والتلقي. وكذلك نجد في اليومين اللذين خُصِّصا للشعراء الشباب في مهرجان دمشق الثقافي الذي أُقيم في مكتبة الأسد بدمشق توهجاً وتفرداً في نسج الصورة الشعرية والتقاط تفاصيل مرتبطة بالأزمات التي خلقتها الحرب على سورية وتوظيفها في فضاءات دلالية وإسقاطات مُعبّرة عن وعي مُتقدم لم نلمسه في الكثير ممّا قدمه الشعراء الأكبر سناً ممّن يُقدَّمون على المنابر باستمرار في أيامنا هذه، وذلك لنزاهة القائمين على اختيار المشاركين الشباب في هذا المهرجان والذين أعرفهم شخصياً. ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: كيف للمؤسسات وخاصة الرسمية الإعلامية أن تُقدّم برنامجاً عميقاً وراقياً كادره من الشباب رؤية وتقديماً كبرنامج (قوافي) الذي يُعدّه درّة من دُرر التلفزيون السوري، وتُقدّم في المقابل برامج نمطية هزيلة كوادرها شابة؟!! ألا يوجد معايير وضوابط تضمن عدم التفاوت في المستويات إلى تلك الدرجة؟! ألا يوجد مساءلة وتفنيد فيما يُقدّم؟!!

وخلاصة القول.. لعلّ ضخّ الدماء الجديدة لن يؤتي ثماره في التحديث والتطوير ما دام يتمُّ وفق نمطٍ انتقائي لما يكاد يتطابق مع العقلية السائدة للأجيال الأكبر سناً، ضخُّ الدماء الجديدة بشكل مؤثّر وفعّال لن يتحقق إلاّ عند التعامل مع فئة الشباب كشريك في التحديث والتغيير وليس كطاقة يتمُّ توظيفها وتسخيرها لخدمة ما تريده وتُكرّسه الأجيال الأكبر سناً.

العدد 1104 - 24/4/2024