الإنتاج… ثمّ الإنتاج!

ريم الحسين:

إعادة افتتاح بعض الصناعات الّتي توقّفت بسبب الحرب، وبضمنها (سيرونيكس) ولو بطاقةٍ إنتاجيّة ليست كبيرة، أثارت بعض الأمل في رسم خطّ البداية لإحياء عملية الإنتاج والمضي قدماً ولو بخطوات أوليّة لتحسين الاقتصاد ودفع عجلة الإنتاج من جديد.

فالإنتاج هو الحلّ الأمثل والوحيد لتجاوز المحنة الّتي يعيشها البلد، سواء كانت بسبب الحرب أم العقوبات، ولتحريك السّوق الدّاخلي والعودة المأمولة للاكتفاء الذاتي.

وهنا تنبثق الضّرورة لتشجيع الصّناعيين أصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة على رفد السّوق بالمنتجات المحلّية الصّنع، وبأسعار مقبولة، بعيداً عن صناعات المنشآت الحكوميّة أو أصحاب الأموال الضّخمة والصّناعات الكبيرة لما لها من دور هام على زيادة الإنتاج ورفع النّاتج المحليّ الإجماليّ، وبالتّالي زيادة معدّل النّمو، مما سينعكس إيجاباً على حياة المواطن السّوري من حيث توفّر المنتجات والسّلع الأساسيّة والهامّة وسيرفع من قيمة اللّيرة السّورية ويوفر القطع الأجنبيّ إذ يحدّ من الاستيراد ويساعد في تقليص معدّل البطالة.

يعاني قطاع الصّناعة من تشرذم كبير لم تعد مقنعةً الأسبابُ المكرّرة والمعروفة: الحرب والعقوبات… ذلك أن هناك فجوة هائلة حاصلة نتيجة عدم تشجيع المنافسة والاحتكار عن طريق حيتان المال لكلّ القطاعات، مما يضطّر صاحب المنشأة الصّغيرة إلى إغلاقها بعد فترة، أو عدم التفكير بإعادة هيكلة مصنعه من جديد. وهنا يأتي دور التّدخل الحكوميّ بوقف جشع الكبار، وتحقيق فرص متكافئة لكلّ الأطراف بحيث تكون هي المموّل الكبير للمواد الأوليّة لكلّ الصّناعات وليس رأس المال الخاص الّذي يمول وينافس بالصّناعة نفسها! أو وضع قيود على الموزعين برفد السّوق بالمواد الأوليّة فقط سواء تم إنتاجها محليّاً أو استوردت بحيث ينحصر عمله ضمن هذا الحدّ دون الدخّول أيضاً في ميدان الصّناعة نفسها.

إضافة إلى رفع الطّاقة الإنتاجيّة لمصافي النّفط ولمعامل الحديد والصّلب والاسمنت وغيرها من الصّناعات الثقيلة والمواد الرئيسيّة لتحريك الصّناعة، ووضع تشريعات تتناسب مع متطلبات المرحلة القادمة وتضمن الاستثمار العادل لرؤوس الأموال ضمن خطط مدروسة على المدى القصير، ثم الطّويل، لتحقيق الاستخدام الأمثل لموارد الاقتصاد ومنح فرص لإدارة رأس المال وخصوصاً الصّغير، فهو سيكون المحرك الأساسيّ لرفع سوية الاقتصاد والنّهوض الاقتصاديّ والاجتماعيّ.

فمثلاً قام المصرف المركزي السوري منذ مدّة، لأوّل مرّة، بإصدار شهادات إيداع للمصارف العاملة ضمن البلاد، لتفعيل بعض الأدوات المالية المتاحة ضمن السّياسة النّقدية، والهدف هو تجميع السّيولة الفائضة لدى تلك المصارف، والحدّ من التضخم عن طريق تحقيق الاستقرار العام للأسعار بسحب السّيولة، وهي خطوة جيدة إن استُثمرت هذه الأموال في المشاريع الصّناعية وضخّ هذه الأموال في الاقتصاد وإدارتها بشكل جيّد، وربما كان من الأفضل أن يُسمَح للمصارف  وتُوجَّه لتمويل المشاريع والمنشآت الصّناعية القديمة أو الجديدة من السّيولة الرّاكدة، والّتي وصلت في بعض المصارف إلى حدّ عدم قبول الودائع نتيجة عدم القدرة على توظيفها مجدّداً.

ولا ينبغي لزيادة الإنتاج أن تنحصر فقط ضمن قطاع الصّناعة، وإنّما ينبغي أيضاً، وسورية بلد زراعيّ بالدّرجة الأولى، زيادة مساحات الأراضي المزروعة، التي تأثرت كثيراً بفعل الحرب، وخصوصاً التي حُرّرت من الإرهاب، وتشجيع المزارعين وتمويل محاصيلهم وشرائها بأسعار مقبولة، فما زالت صور محاصيل البرتقال في السّاحل السّوري وهي تُرمى نتيجة السّعر الزهيد الّذي يتقاضاه الفلاح عنها تصيب الاقتصاد بسكّين، مع تراكم المنتجات المماثلة والتي لا تلقى الدّعم المناسب. والمفارقة أن تجد سعر البرتقال لم ينخفض عن ٢٥٠ ليرة في الأسواق الاستهلاكيّة! وكذلك أن تتحول سورية من بلد مصدّر للبطاطا إلى بلد مستورد لبطاطا مصريّة أقلّ ما يقال عنها إنها سيئة وتأكلها العفونة، وكأنّها صفقة فساد! والأمثلة كثيرة.

استثمار هذه الأراضي الخصبة وفيرة المياه ليس فقط بهدف إغراق السّوق المحليّة وإنّما للتّصدير لاحقاً، لإنعاش الاقتصاد من جديد وتوفير القطع الأجنبيّ، وبالتّالي سهولة تأمين مستلزمات الصّناعة والزّراعة.

الصّناعة والزّراعة هما مرساة الأمان لتعافي الاقتصاد السوريّ، والسّبيل الوحيد لبداية الإعمار من جديد وإدارة اقتصاد المواجهة والأزمات، وليس النّدب وتعليق كلّ الفشل على شمّاعة جاهزة هي الحرب والعقوبات.

العامل والفلّاح هما اللّبنة الأساسيّة في الاقتصاد وليس التّاجر، وهذه البلاد لا تحتاج إلى مولات ومطاعم ورفاهيّة في هذه المرحلة الصّعبة الّتي لا يعيش هذه الرّفاهية إلّا عددٌ قليل من السّكان، هذه البلاد تحتاج إلى مصانع ومعامل وحقول خضراء وبساتين.

هذه البلاد لا تحتاج إلى مؤتمرات ومحاضرات عن أهميّة الصّناعة والزّراعة، إنها تحتاج إلى التطبيق العمليّ والفعليّ لهذه الشعارات.

(التّقشّف ليس أن أفقر الجميع، بل هو أن تستغني الدّولة عن كثير من الرّفاهيات لدعم الفقراء) هذه العبارة للرئيس البرازيلي السابق داسيلفا، الّذي أنقذ البرازيل من انهيار وإفلاس مرعب، وقادها نحو التطوّر والنّمو عن طريق دعم الصّناعة والزّراعة.

والتّقشّف لا ينبغي أن يكون على حساب الطّبقات الفقيرة ويسلم منه الأغنياء، ولا يعني ضرائب تطول ذوي الدّخل المحدود ويتهرّب منها أصحاب الأموال. التّقشّف هو خطّة سريعة للنّمو وإعادة هيكلة الاقتصاد ومكامن ضعفه، ومن ثم تعود هذه الخطوات بمستوى معيشيّ لائق لكلّ الأفراد.

تجاوز الأزمات والحروب والتّخلف والدّمار ليس مستحيلاً، إنّها إرادة وإدارة، ويحدث في سنوات معدودة، وليس كما يخطّط أعداؤنا بفرض واقع اقتصاديّ واجتماعيّ منهار لسنوات طويلة. والطّريقة معروفة ومحدّدة: الصّناعة والزّراعة والاهتمام بالفئات الفقيرة والتّعليم.

الصّناعة والزّراعة توءمان، والابنان الشّرعيان للاقتصاد وتطوره.

فالصّناعة تثري الزّراعة والزّراعة تغذّي الصّناعة، وزيادة الإنتاج هي الحلّ الوحيد لعلاج الكساد، ولتآكل الاقتصاد، ولإمكانية التّصدي للحصار والعقوبات.

المجد للشّهداء، حماة الدّيار عليكم سلام.

العدد 1104 - 24/4/2024