نظام النقد العالمي.. وتقلّبه بين الماضي والحاضر (2 من 2)

يونس صالح:

 

دور الدولار كعملة عالمية

منذ اتفاقية بريتون وودز وإنشاء صندوق النقد الدولي، أصبح الدولار العملة العالمية الرئيسية، وتعاظم الدولار بسبب ضعف الاقتصاد الأوربي وقوة الاقتصاد الأمريكي، ومساعدة الثاني للأول في برامج الإنشاء والتعمير التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، ودعمت بمشروع مارشال الأمريكي، وأدى نمو الاقتصاد الامريكي وتزايد قوته إلى تراكم الذهب في فورت فوكس بأمريكا حتى بلغ 70% من الاحتياطات النقدية العالمية، وكان الدرس الذي تلقاه العالم في ثلاثينيات القرن الماضي كافياً لقبول الأوضاع الجديدة على الأقل خلال الخمسينيات والستينيات. ولكن ما إن بدأت الدول الغربية الأوربية الشعور بقوتها الاقتصادية وتراكم قدر لابأس به من الذهب في خزائنها، حتى أقدمت على منافسة الدولار الأمريكي في مكانه، وقد ساعدها على ذلك ما أحدثته الحرب الكورية ثم الحرب الفيتنامية من ضعف نسبي للاقتصاد الأمريكي، وبدأ تسرب العجز إلى ميزان المدفوعات الأمريكي بسبب تدفق الدولار على العالم، لسداد قيمة متطلبات تلك الحروب من المواد الأولية والإنفاق العسكري في الخارج، مما أدى إلى تبدل الموقف، فبعد أن كان الدولار بعد الحرب ولمدة تبلغ 20 سنة عملية قوية كالذهب، بل يمكن تحويلها إلى ذهب بالسعر الرسمي المتفق عليه في بريتون وودز، تحول إلى عملة تنافسها كثير من العملات الأخرى القوى، واضطرت إدارة نيكسون إلى وقف تحويل الدولار إلى ذهب، ثم تخفيض العملة مرتين، وانتهى الأمر إلى إلغاء العلاقة بين الدولار وسعر الذهب القائم على تحديد 35 دولاراً أمريكي للأونصة الواحدة، وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973. وقد تميزت إلى جانب إنهاء الارتباط بين الدولار وسعر الذهب، بتراكم فوائض البترول المدفوعة بالدولار في البنوك التجارية الغربية، التي تعاظم نشاطها في السيولة الدولية عن طريق اقتراض الدول النامية، دون ضوابط محددة، مما أدى إلى تراكم الديون على هذه الدول بالمليارات، وعدم استطاعتها الوفاء بهذه الديون أو بفوائدها المستحقة، دون اقتراض جديد ودون إعادة جدولة مواعيد سداد هذه الديون.

وبجانب تراجع دور الذهب، وتراكم فوائض البترول، وتعاظم أرقام الديون الخارجية، وظهور دور البنوك التجارية في التمويل العالمي بشكل واضح وخطير، فقد تكاثر عدد الدول التي خفضت أسعار عملاتها، وعدد مرات تخفيض الدولة الواحدة لعملتها الوطنية في فترات متقاربة. ولجأت الدول إلى ربط عملتها لا بالذهب ولا بالدولار، ولكن إما بحقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، أو بسلّة من العملات الأجنبية وليس بعملة واحدة.

وأصبح نظام النقد العالمي ضعيفاً لكثرة التغيرات في أسعار الصرف، بسبب التضخم والتقلبات الاقتصادية العالمية والقرارات الإدارية، وضغوط صندوق النقد الدولي على الدول ذات العجز في ميزان المدفوعات، وبذلك أصبحت ظاهرة التغيير في أسعار الصرف أكثر وضوحاً من ثبات أسعار الصرف خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

توجد الآن أسعار صرف مرنة، ولكن في حدود تضعها السلطات النقدية المعنية بالتشاور في بعض الأحيان مع المنظمات النقدية العالمية المنشأة وفقاً لاتفاقية بريتون وودز لعام 1944، وفي ظل هذا النظام فإن التقلبات غير المتوقعة والتذبذبات القصيرة الأجل حول سعر الصرف المعلنة من قبل السلطات النقدية أمر لا مفر منه، وهي –إن كانت تعيد للأذهان فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى ما قبل الانهيار المالي لعام 1929 – 1932 والكساد العالمي الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي_ فإن هناك تعاوناً وثيقاً بين المراكز المالية العالمية وخاصة بين لندن ونيويورك هو أشد وأقوى من فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فضلاً عن وجود صندوق النقد الدولي الذي تلعب فيه الدول الأخرى وبضمن ذلك الدول النامية دوراً محدوداً.

ولكن لايزال التحكم في الأسواق المالية والنقدية العالمية في يد الدول العظمى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وإنكلترا، فالدول الأخرى لاتزال تدير نظامها النقدي عن طريق أسعار متعددة للصرف: فهناك الأسعار الرسمية والأسعار التشجيعية وأسعار السوق الفعلية أو السوق السوداء، حتى الأسعار الرسمية لها أكثر من سعر وفقاً لنوع الواردات أو الصادرات أو التعامل الرأسمالي.. إلخ.

هذه الحيرة في الدولة النامية وغيرها من الدول الأخرى ترجع إلى عدم تمكّنها من التحكم في أسعار صرف عملاتها، نتيجة لعدم تحكّمها في الأسواق المالية والنقدية العالمية التي كانت ولاتزال تهيمن عليها الدول العظمى، والتي توجهها وفقاً لمصالحها، وأصبحت التيارات المالية التي تهب من المراكز المالية العالمية الغربية هي التي تملي أسعار صرف العملات في معظم أنحاء العالم، ولهذا فإن التقلبات في هذه الأسعار القصيرة الأجل والمتوسطة الأجل كانت ولاتزال تفوق كل التوقعات المحلية بل العالمية، ذلك لأن هذه التوقعات هي نتيجة لقرارات القلة المسيطرة وهي تخدم مصلحتها. وكلما كانت المعلومات عن الاتجاهات المستقبلية غير متوفرة في الأسواق نظراً لاختصاص القلة بتحريكها، كانت الغالبية العظمى أبعد ما تكون عما يخبئه المستقل. والملاحظ أنه على الرغم من تلك التقلبات فإن تدفق رؤوس الأموال الغربية للاستثمار في الدول النامية لم يتأثر سلباً بهذه الأوضاع، ذلك لأن الاتجاه العام المستمر هو انخفاض أسعار صرف عملات الدول النامية في مقابل العملات الرئيسية العالمية، وهو عامل مشجع للدول الرأسمالية وشركاتها المتعددة الجنسيات على الاستثمار في الخارج ما دامت متوافرة فيه الشروط اللازمة للاستثمار الاجنبي، وهي الربح والاستقرار وتحويل العملة للمستثمر.

التخفيضات المتعاقبة، سواء كانت تخفيضات أسعار صرف العملات نتيجة لتعويم العملة الوطنية، أو بناء على قرار إداري استجابة لمقترحات صندوق النقد الدولي، فإن النتائج المترتبة على ذلك خطيرة، فالهدف المرجو من تخفيض سعر صرف العملة الوطنية هو عادة زيادة الصادرات وخفض الواردات، وهو هدف قلما تحقق لأية دولة نامية اتبعت نصائح صندوق النقد الدولي، ذلك لأن كلا من عرض الإنتاج القابل للتصدير، والطلب على الواردات الضرورية للحياة واستمرار النشاط الاقتصادي كلاهما غالباً غير مرن في الدول النامية، ولن يستجيب بالدرجة الكافية لتحقيق الهدف من تخفيض سعر صرف العملة الوطنية.

فالإنتاج الزراعي بطبيعته إنتاج غير مرن في الأجل القصير، وفي معظم الدول النامية، وهو إنتاج غير كاف لمواجهة الاستهلاك المحلي، وبالتالي لن يلعب دوراً كبيراً أو صغيراً في زيادة الصادرات وإعادة التوازن لميزان المدفوعات. وإذا ما انتقلنا إلى الإنتاج الصناعي رأيناه في الدول النامية، إن وجد، ذا نسبة متواضعة في مجموع الناتج الوطني الإجمالي، بل إنه ما كان لينمو في كثير من الحالات دون حماية جمركية، ولو أمكن التغلب على ذلك، وكان التصدير ممكناً، فإن زيادة الصادرات الصناعية للدول تحتاج في كثير من الأحيان إلى زيادة في الواردات من مواد خام ومعدات وقطع غيار ومعرفة تكنولوجية، وكلها تصبح بعد تخفيض العملة الوطنية أكثر تكلفة وأكثر ندرة في الحصول عليها نتيجة لنقص موارد النقد الأجنبي، هذا فضلاً عن أن ارتفاع تكلفة الاستيراد يجعل الإنتاج الصناعي للدول النامية والقابل للتصدير أكثر كلفة وأقل قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية، هذا فضلاً عن المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تتبع ذلك.

 

الدولار

إن أسعار صرف هذه العملة لشدة الطلب العالمي عليها كوسيلة لتسوية المعاملات الدولية، لها قيمة فعلية في أسواق الصرف العالمي أعلى من قيمتها الحقيقية.

فعلى الرغم من العجز الكبير في ميزان المدفوعات الأمريكي الذي يقدر بمئات المليارات من الدولارات كل عام، ورغم العجز المتفجر في موازنة الحكومة الفيدرالية الأمريكية، وعلى الرغم من تضخم الإنفاق العسكري الذي بلغ في عهد الإدارة الأخيرة أكثر من 200 مليار دولار، نجد أن الدولار ذو قيمة في التعامل الدولي تفوق قيمته الحقيقية التي كان من المفروض أن تعكس أوضاع الاقتصاد الأمريكي الداخلية والخارجية، ويرجع البعض سبب ذلك إلى أسعار الفائدة المرتفعة والمضاربة وغيرها، ولكن الفائدة تنزع إلى الانخفاض، ثم أليست المضاربة بطبيعتها ذات آثار وقتية وليست دائمة؟ إن هذه المبررات غير مقنعة تماماً، بل كان من المتوقع بعد انخفاض أسعار الذهب وأسعار البترول وعجز معظم الدول المدينة عن سداد ديونها المتراكمة بالمليارات أن يتأثر سعر صرف الدولار ويميل إلى الانخفاض.

إن فوائض البترول الدولارية قد انكمشت وتضاءلت، بل تحولت بعض دول الأوبك من دول ذات فائض إلى دول ذات عجز في ميزان المدفوعات مما قوى من مركز الدولار الحالي، بعد أن كانت الفوائض المتراكمة لدى البنوك الغربية هي مصدر تمويل السيولة الدولية، أصبحت هذه الفوائض ضئيلة، وبالتالي ظهر نقص في حجم الدولارات الأمريكية المتاحة للتمويل العالمي، على الرغم من تزايد حجم استعمال الدولار لتمويل عجز الموازنة العامة الفيدرالية الأمريكية. وقد تفاقمت المشكلة بانخفاض أسعار النفط، واضطرار دول الأوبك إلى السحب من أرصدتها القديمة لتمويل احتياجاتها للدفع بالدولار (فمثلاً تسحب السعودية كل عام مليارات الدولارات لتغطية حاجاتها من البنوك الدولية)، وهذا الأمر يضعف أرصدتها البترولية في هذه البنوك.

إن مثل هذا الوضع جعل البنوك التجارية تلهث خلف البلاد المدينة لسداد ديونها وجعلها في أشد الحاجة للبحث عن الدولارات لمواجهة دفع الديون المستحقة وفوائدها، هذا مما تسبب في هذه الندرة الحالية للدولار في الأسواق العالمية.

وهكذا، فإن التوقعات تشير إلى استمرار قوة الدولار لفترة مقبلة.

العدد 1104 - 24/4/2024