فن بلا مضمون.. فنّ مسيَّس

بولس سركو

تنتشر على ساحتنا التشكيلية اليوم آراء كثيرة حول ماهية الفن والمثل الجمالي المعاصر، لكن كل هذه الآراء لم تخضع للمساءلة النقدية وما هو الصالح منها لبيئتنا النفسية والتاريخية؟ لتحل محلَّ تلك المساءلة حالةٌ من التشدد الانفعالي في الدفاع عن أطروحات ما بعد الحداثة وكأنها بمثابة قيم مقدسة، على الرغم من التوجه العام الجارف نحو تقديم التراث السوري في حلة تشكيلية معاصرة تبدو من الغنى في تنوعها بحيث يتصاعد الشعور بالاكتفاء، ويفوت على المتابع أن يسأل عن الهوية الفكرية والسياسية، خاصة مع عزل ظاهرة الفن التشكيلي عن الظواهر الاجتماعية الأخرى، وشيوع مقولة (الفن للفن)، وكأنها مسلمة ثابتة لا نقاش حولها، فالقضية تكمن في الجانب السيادي للفن التشكيلي وفي العلاقة الجدلية بين الشكل والمحتوى.

إن السؤال عن مدى تفاقم التناقض بين الشكل والمحتوى أحياناً، وتغييب المحتوى بالمطلق لصالح أحادية شكلانية رهبانية مفصولة عن حياة المجتمع، هو أكثر الأسئلة المطروحة على الفن التشكيلي السوري المعاصر، وذلك لأن عملية تقويض الواقع أو اجتثاثه في الفن التشكيلي الغربي، ومعه فن الأطراف التابع، ليست عملية بريئة حصلت تلقائياً في مسار التطور التاريخي الطبيعي للفن، بل هي عملية متعمدة تمثل فظاظة التدخل السياسي الرأسمالي في التوجهات الفنية من وراء ساتر (حرية الفن والفنان). وكان الهجوم على الفن الملتزم والواقعية الاشتراكية هو جزء من ذلك الساتر.

ربما لم يطلع كثير من الزملاء الفنانين المدافعين عن عزل الفن التشكيلي عن السياسة والقضايا الاجتماعية، بذريعة نقاء الفن، على الوثائق المؤكدة للتدخل الرأسمالي السياسي السافر في التوجهات الفنية، وهي وثائق أصبحت بالجملة ومن أهمها على سبيل المثال لا الحصر ما ذكرته الكاتبة (فرانسيس ستينر سوندرز) في كتابها (من دفع للزمار؟) الصادر عام 1999، وفيه كل المعلومات الموثقة عن وقوف المخابرات المركزية الأمريكية وراء مؤتمر الحرية الثقافية الذي عقد عام 1950 في برلين، كأبرز نموذج عن الحرب النفسية الناعمة ضد الشيوعية. شارك فيه فلاسفة وكتاب في مجال الفكر ومسرحيين وشعراء وفنانين تشكيليين وصحفيين ونقاد ومخرجين وممثلين ومؤرخين، ناقشوا لعدة أيام كيفية المواجهة الثقافية مع الشيوعية، وكان ذلك مجرد بداية لثقافة رأسمالية موجهة راحت تتوسع وتنتشر في العالم قبل أن ينفضح دور المخابرات الأمريكية في تشكيل توجهات الإنتاج الثقافي الموسيقي والأدبي والفكري والتشكيلي من خلالها عام 1967، فيما اعتبر فضيحة القرن العشرين، على صفحات جريدة (نيويورك تايمز) صباح 27 نيسان من ذلك العام.

في ذلك المؤتمر تم التركيز على المفهوم الرأسمالي للحرية، بهدف خلق صراع مع ما سمي بالمفهوم الشمولي، الأمر الذي تجسد بعد ذلك في المعارض التشكيلية ومختلف الأنشطة الثقافية وفي الدعاية والإعلام والكتابات النقدية لأبرز أسماء تلك الحقبة، وفق رؤية استخبارية أمريكية يتحرك فيها الشخص معتقداً أنها رؤيته هو حين يكون خارج طابور المأجورين المكلفين عن سابق إصرار بنشر تلك الرؤية، مما يضعنا أمام شكوك لا متناهية في القيمة الحقيقية لكل المدارس الفنية التي تبنت العبثية واللهو الشكلاني وصولاً إلى تعمّد الجنون وإقصاء الواقع كلياً من فضاء الإنتاج التشكيلي.

لكننا لا نؤمن فعلياً بوجود فن شكلاني محض، لأن جدلية الشكل والمضمون كائنة في الفن كما في كل ظواهر الحياة بالقوة نفسها لجدلية اللون البارد واللون الحار، أو جدلية الظل والنور، حتى لو تعمد الفنان الانصراف الكلي عن المحتوى والاهتمام فقط بالشكل، فهو دون أن يدري يصرح عن المحتوى الأيديولوجي الرأسمالي لعمله الفني من خلال الشكل المطروح. ويعتبر الديالكتيك أن الفهم الخاطئ للعلاقات المتبادلة بين الشكل والمحتوى يؤدي إلى الإفراط في تضخيم وتشويه إحدى الناحيتين المشكلتين لكل مترابط طبيعياً، وهكذا فجوهر النظرية الشكلية المشوهة يكمن في أنها تعتبر الشكل مطلقاً وتهمل محتواه، وأن تضخيم دور الشكل كانت غايته تشويه أهمية الفن الاجتماعية العظيمة والحط من قوة تأثير الفن في المجتمع.

العدد 1102 - 03/4/2024