أزمة البنزين في سورية بين العقوبات الأمريكية.. وإدارة الأزمة!!

د. منير الحمش: 

من شرفة منزلي المطلّة على الشارع الخلفي لمدينة الجلاء الرياضية بدمشق، الموازي لأوتستراد المزة – وهو شارع عريض، وذو مسارين، ينتهي كلاهما بثلاثة محطّات للوقود.

من هذه الشرفة أشاهد في المسارين (طابور) السيارات المتجهة بتثاقل نحو المحطة، في مسارٍ ملتوٍ بين الشوارع المحيطة كالأفعى. وغالباً ما تتوقف السيارات بسبب توقف إحداها لنفاد وقودها، فيقف سائقها حائراً، مستجيراً بالمارة، للمساعدة في (دفشها) بعض الأمتار، ويتكرّر هذا الوضع مراراً، في مشهد يدعو إلى الأسى أكثر مما يدعو إلى الضحك.

هذا المنظر جعلني أفكّر في الأسباب التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، فما تكاد

أزمة الغاز المنزلي تُحَلُّ (مؤقتاً) حتى تتصاعد أزمة المازوت، التي يفرج عنها بعض الشيء بعد أن يُسمح للصناعيين باستيراد احتياجاتهم، وبعد أن تحسّن الطقس نسبياً وانخفضت الحاجة إلى مازوت التدفئة.

لكن أزمة البنزين، تبرز على نحو أكثر حدّة، فهي تتعلق بتوقّف عجلة النقل والانتقال، وتتمثل في طوابير السيارات التي تقف لساعات لتحصل على 20 ليتراً كل خمسة أيام للسيارات الخاصة، و20 ليتراً كل 48 ساعة للسيارات العمومية، وهي إجراءات اتخذت لاستخدام ما يدعى (البطاقة الذكية)، التي تعهدت شركة خاصة بإصدارها، واشترطت الجهة الموزعة (سادكوب) استخدامها للحصول على الكمية المخصصة، التي تستنزفها ساعات الانتظار الطويلة.

وانسجاماً مع مسار (تحرير الأسعار)، عمدت الحكومة إلى استيراد البنزين بالأسعار العالمية، وطرحه بسعر (600 ل.س لليتر الواحد) عن طريق محطات توزيع مباشر، فخلقت بؤر ازدحام جديدة، فضلاً عن كون هذا الإجراء بمثابة التمهيد لرفع الأسعار.

ما هي قصة البنزين؟ وما هي المشكلة؟

الجواب نجده في آخر توصية تقدم بها صندوق النقد الدولي، الذي عليه وفق الاتفاق المعقود مع الحكومة السورية، أن يقدم تقريراً حول سير عملية الإصلاح الاقتصادي والمالي، وقد أشاد تقرير الصندوق في أواخر عام 2010، بجهود الحكومة في التحول نحو اقتصاد السوق، وأوصى في نهاية تقريره بأمرين:

الأول: إقرار قانون الضريبة الجديد (الذي أعدّه)، متضمّناً فرض ضريبة القيمة المضافة (وهي الضريبة التي أقرتها مؤسسات العولمة (الصندوق والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية) كبديل عن تخفيض الرسوم الجمركية المقررة تحت شعار حرية التبادل التجاري، وقد أقرّت الحكومة قانون ضريبة القيمة المضافة الذي يحمِّل المستهلك الأخير أعباء تحرير التجارة، ولكن الحكومة ولأسباب تقنية لم تستطع تطبيقه حتى الآن.

والثاني: إعادة النظر بأسعار المشتقات النفطية، توصُّلاً إلى السعر العالمي.

مما يعني رفع الدعم المقدم للمستهلكين والصناعيين وأصحاب وسائل النقل، ذلك الدعم المكتسب تاريخياً، بعنوان تخفيض أعباء المعيشة على المواطنين، وتخفيض تكاليف الإنتاج على الصناعيين وأصحاب وسائل النقل.

ومنذ ذلك الوقت حرصت الحكومة على تنفيذ هذه التوصية، من خلال إعادة النظر بالدعم وسياسة الدعم، تحت عنوان (إيصال الدعم إلى مستحقيه).

وتم بموجبها رفع العديد من أسعار المواد الحياتية، تحت هذا الشعار قبل الحرب، ثم تحول الشعار إلى (عقلنة الدعم). وفي كلتا الحالتين رُفعت الأسعار تدريجياً، ولكن بعد تعاظم نسب التضخم، أصبحت الحكومة عاجزة عن مواجهة ضغط الرأي العام أمام أيّ رفع حديد لأسعار المحروقات، خاصة بعد الاعتداءات الغادرة على معامل توليد الكهرباء، وشبكة التوزيع.

وتأتي السياسات الاقتصادي الليبرالية الجديدة، في إطار التحولات التي أصابت النظام العالمي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والإعلان عن انتصار الرأسمالية، وفي ذلك الوقت تم التوصل إلى ما يدعى (وفاق واشنطن) بين الصندوق والبنك الدوليين وحكومة الولايات المتحدة، على برنامج للإصلاح الاقتصادي، يشكل التحول نحو اقتصاد السوق محوره الأساسي، وتم تعميم هذا البرنامج على الدول الاشتراكية السابقة وعلى الدول التي كانت تتخذ من التدخل الحكومي في الاقتصاد عنواناً لسياساتها الاقتصادية.

وبعد احتلال العراق (2003) طرح الرئيس الأمريكي مشروعه الخاص تحت عنوان (الشرق الأوسط الكبير) الذي هو تطوير لمشروع بيريز الذي أعلنه في منتصف تسعينيات القرن الماضي.

ويتضمن هذا المشروع في جانبه الاقتصادي، التحول نحو اقتصاد السوق والاندماج بالاقتصاد العالمي، وهو يلتقي مع أهداف الشراكة الأوربية في ذلك.

ورغم انتهاج الحكومة السورية للسياسات الاقتصادية الليبرالية الموصى بها، فإن ذلك لم ينل رضاء الولايات المتحدة (وتالياً الاتحاد الأوربي).

لقد وضعت هذه السياسات الاقتصاد السوري على مسار اقتصاد السوق والانفتاح وتحرير التجارتين الداخلية والخارجية وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص، مما يقع في برنامج (وفاق واشنطن)، إلا أن ذلك لم يكن كافياً، فاختلقت الصعوبات أمام سورية، خاصة في لبنان، فقد أصدرت الولايات المتحدة المزيد من العقوبات الاقتصادية على سورية، ثم كان اغتيال رفيق الحريري في لبنان، إيذاناً برفع مستوى العقوبات والحصار الاقتصادي، وتوِّج ذلك بالعدوان الصهيوني على لبنان عام 2006.

فماذا كانت تريد الولايات المتحدة (ومعها الصهيونية وأوربا) من سورية؟

كتب الكثير حول الاستراتيجية الأمريكية، وعن خطوطها العامة، كما كتب الكثير

عما تريده الولايات المتحدة من سورية، وقد عرفت ملامحه الأولى من الرسالة التي نقلها وزير خارجيتها (باول) إلى رئيس الجمهورية، بعد احتلال العراق، متضمّنة قائمة من المطالب، هي أشبه بابتزاز للاستسلام النهائي، والخضوع لرغبات وسياسات الولايات المتحدة، والانضواء تحت لوائها، والانصياع لأوامرها.

وقد رفضت سورية هذه المطالب (الإنذار)، وكان ذلك إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من تاريخها، عنوانها توقّع الأسوأ من تداعيات السياسة الأمريكية – الصهيونية، الأمر الذي كان يفترض من الحكومة السورية، أن تُدخل تغييرات أساسية في سياساتها الداخلية، بهدف المحافظة على وحدة البلاد أرضاً وشعباً، وتعزيز الوحدة الوطنية الداخلية، والعمل على إصلاح المؤسسات وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وجعل السياسة الاقتصادية في خدمة هذا الهدف توصُّلاً إلى تحقيق قوة الاقتصاد، وتعزيز قدرته على مواجهة التحديات.

إلا أن ذلك لم يحصل، فقد أمعنت الحكومة في تطبيق السياسات الاقتصادية الليبرالية الموصى بها، تحت ضغط بعض الاقتصاديين الليبراليين والاتحاد الأوربي وبعض رجال الأعمال المصنّعين في دهاليز المؤسسات الدولية، وطبعاً بدعم من جميع القوى الاحتكارية والمستغلّة في السوق المحلي، وكأن الحكومة (أو بعض أعضائها) كانت تعتقد أن انتهاج تلك السياسة يمكن أن يبعد عنها العداء المستحكم في تصرفات وتوجهات السياسة الأمريكية (الصهيونية –الأوروبية)، فترضى عنها وتتوقف عن الضغط عليها اقتصادياً وسياسياً.

وبعد الحرب، للأسف، استمرت الحكومات المتعاقبة على انتهاج السياسات ذاتها، وظلت في حالة إنكارٍ تامّ للعوامل الداخلية المسبِّبة لحالة الاحتقان والإحباط السائدة في المجتمع بسبب سياساتها الاقتصادية والاجتماعية.

ماذا كانت تريد الولايات المتحدة من سورية؟ ولماذا استمرّ حصارها وأمعنت في عقوباتها الاقتصادية مستخدمة في ذلك أقصى ما لديها من إمكانات، لخنق الاقتصاد السوري، والتأثير المباشر على معيشة السكان ومعاشهم اليومي.

كما صرّح مسؤولوها الأساسيون أن الولايات المتحدة، تريد أفعالاً لا أقوالاً، وتتمثل هذه الأفعال المطلوبة، في خطوات عملية باتجاه القبول بالانطواء تحت الخيمة الأمريكية، وقبول التطبيع مع إسرائيل وإقامة علاقات (عادية) معها، ونسيان الجولان، وطيّ ملف القضية الفلسطينية، والخروج من محور المقاومة، وإعلان العداء لإيران… وغير ذلك.

وهي في سبيل ذلك عملت على إضعاف الدولة السورية، وتخريب بنيتها الأساسية،

وإشعال نار الفتنة الداخلية، ودعم الفصائل الإرهابية وكلّ ما من شأنه إظهار الدولة بمظهر (الدولة الفاشلة)، ليتخذ ذلك ذريعة للتدخل الأممي العسكري من قبلها ومن قبل ما دعته (الحلفاء)، بعد أن ابتكرت تعبير (محاربة الإرهاب).

إن إظهار سورية، بمظهر (الدولة الفاشلة) يعني أنها دولة:

– لا تستطيع حماية حدودها.

– ولا تستطيع أن تحقق الأمن لمواطنيها، وينتشر فيها الفساد.

– دولة لا تستطيع أن تؤمّن الاحتياجات الأساسية للسكان.

– دولة لا يُحترم فيها القانون، وتجري مخالفته علناً.

وهي بالتالي دولة (عاجزة). وقد وصلت الدولة السورية إلى ما يشبه ذلك (لولا تماسك القوات المسلحة ودعم الأصدقاء) وتبدّى ذلك في:

– اختُرقت السيادة السورية بالتدخلات الخارجية (الموالية والمعارضة).

– افتقد الأمن داخل حدود الدولة.

– فقدت الدولة سيطرتها على أجزاء عزيزة منها في الشمال وشرق الفرات، وإلى

حدٍّ ما في الجنوب.

– افتُقد الأمن داخل البلاد، مما أدى هجرة ونزوح الملايين إلى داخل البلاد وخارجها.

– ضعفت سيطرة الدولة على مؤسساتها.

– عجزت عن تأمين الاحتياجات الأساسية، بالكميات والأسعار المناسبة.

– ضعفت قدرة الحكومة على السيطرة على الأسواق المحلية.

ونتيجة ذلك، فإن سورية وصلت إلى مشارف الدولة الفاشلة، نقول مشارف، لأن

الدولة لاتزال قائمة (مع عجزها)، ولا يزال هناك أساسيات يمكن البناء عليها لقيامها من جديد، قوية ومعافاة، ولهذا يزداد ضغط الولايات المتحدة لمنع تعافي الدولة، ومنع قيامها من جديد، مع كل الدعم الذي تتلقاه من أصدقائها، وهي إلى جانب الحصار والعقوبات تعمل على إعاقة الحل السياسي، وتشجع وتدعم المشروع التقسيمي في شمال سورية وشرق الفرات، وكان من النتائج المباشرة لذلك زيادة معاناة سكان تلك المناطق، واستمرار الاستيلاء على آبار النفط والغاز في المناطق التي تسيطر عليها قوات (قسد) بدعم وتشجيع من الولايات المتحدة، التي تسهل عملية استثمار آبار النفط، وضمان نقلها إلى شمال العراق، فتحرم أصحابها منها، وتُحكم الحصار لمنع تزويدها باحتياجاتها، مما أنتج تلك الأزمة، الحادة التي نشهدها، وكأننا نعود إلى المربع الأول من الأزمة.

لكن رسم لوحة للواقع الحالي، يفترض إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية، وبأساليب إدارة الأزمة، فقد بات واضحاً أن محاولة إرضاء الولايات المتحدة (والغرب والصهيونية)، بانتهاج السياسات الاقتصادية والليبرالية الجديدة، لم تُجدِ نفعاً سابقاً، وهي الآن تؤكد أنها لا تكفي، وأن ثمن إرضاء الأعداء، غالٍ جداً، ثمنه الوجود والسيادة والاستقلال والوطن.

ولعل أولى الخطوات المطلوبة، هي إعادة الثقة وتعزيزها بين الدولة والمواطن، والأولوية هنا تعطى للمشاركة الواسعة في القرارين السياسي والاقتصادي، مما يستدعي الأفكار المعبّرة عن الوطن والمواطن والمواطنة والانتماء، بإطلاق الحياة السياسية من خلال حوار وطني شامل.

والخطوة المرافقة لهذا المناخ، هي وقف النزيف، والقضاء على مظاهر الهدر والفساد، وتدعيم مؤسسات القطاع العام، وتشجيع العمل المنتج وتوسيعه، على حساب السمسرة والريع، وبإقرار وتنفيذ مبدأ المحاسبة والمساءلة.

والخطوة الثالثة هي إعلان القطيعة مع السياسات الاقتصادية الليبرالية، ونبذ مقولة

(منطق السوق)، والعودة إلى التمسك بأهداف وقوة الاقتصاد، وإقرار السياسات الداخلية بالاسترشاد بالنظرية الاقتصادية الموالية للفئات الفقيرة والمتوسطة، وإقامة حكومة العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، والاعتماد على مبدأين أساسيين في تولي المسؤولية الحكومية:

الكفاءة والنزاهة، تحت عنوان النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، الأمر الذي يدعو بإلحاح إلى الاهتمام بدعم تماسك المجتمع وتقديم الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية، وجعل هذه الخدمات متاحة للجميع.

إن قوة الاقتصاد، إلى جانب القوة العسكرية، هي السبيل لتعزيز سيادة (الدولة)، وهي المعبّرة عن قوة الدولة، حيث لا مكان للفشل ولا للعجز.

أخيراً، لا بد من تثبيت بعض الملاحظات:

1 – إن السياسات الاقتصادية الجديدة (وهي غير اقتصاد السوق) يجب ألا تكون على حساب المواطنين المقيمين، الذين عانوا ما فيه الكفاية، من ضغوط ومنغّصات ومعاناة حقيقية، في تأمين احتياجاتهم المعيشية اليومية، ومنعكسات الأعمال الإرهابية.

2 – آن الأوان لإعلان حالة المحاسبة والمساءلة، وخاصة لهؤلاء الذين تاجروا بدماء الشعب وقوته، وكذلك بعض المسؤولين الذين أساؤوا استخدام سلطاتهم.

3 – يجب أن لا نسمح مجدداً للمؤسسات المالية الدولية أن تقدم توصياتها وبرامجها، وخاصة تحت عنوان إعادة الإعمار عن طريق الديون الخارجية التي هي فخ جديد ينصب لاقتصادنا، ولا خوف من الحصول على التمويل، ومصادره أصبحت واضحة:

1 – الموارد الذاتية.

2 – التعويضات من الدول التي أسهمت في دمار البلاد وتخريب اقتصاده.

3 – صناديق التنمية في الدول الصديقة.

4 – السوق المالية والعالمية في أضيق الحدود، ودون شروط.

علماً أن ما يشاع من أرقام فلكية حول حجم الأموال المطلوبة، غير صحيح وغير

دقيق، وأنا أعتقد أن دراسة جدية ومسؤولة سوف تتوصل إلى أن ما هو مطلوب إنما هو أرقام متواضعة، وأن البلاد قادرة على تأمينها، دون اللجوء إلى الارتهان لمؤسسات الإقراض الدولية.

قد يقال: ما العمل الآن؟ كيف يؤمَّن البنزين؟ هذا ما يريد معرفته المواطن.. صحيح.. أولاً أن نقتنع بوضع الأزمة في إطارها العام، وثانياً أن تتولى إدارة الأزمة، إدارة كفؤة ونزيهة تكون تحت خيمة المساءلة والمحاسبة والمسؤولية، وهذه الإدارة (غير العاجزة) ستجد بلا شك، ضمن مناخ سياسيّ صحّي، الطريقة أو الأسلوب الأنجح للحصول على المواد المطلوبة وضمان سلامة وحسن وصولها إلى المستهلك الأخير، وهي في سبيل ذلك عليها أن تثبت لنفسها (وللآخرين) أن دولتنا ليست فاشلة، وأنها قادرة على تحقيق العدالة، واحترام القانون، وتحقيق قوة الاقتصاد وتعزيز السيادة والاستقلال.

ولتكن أزمة البنزين فرصةً لإعادة النظر بالسياسات الاقتصادية، لما فيه مصلحة الوطن والمواطن.

العدد 1104 - 24/4/2024