غـنى النـفس وقـوة المال.. نقيضان في عـالم القيم!

حسن البني:

يُطلق على المال في الوقت الراهن مُسمّى عصب الحياة، لأهميته البالغة في تلبية الحاجات وتحقيق المنافع، وله أثر في تطوير العلوم المالية لتغطية حجم الأموال المملوكة وبالتالي تعظيم المنافع. والمال هو أي سلعة يمكن استخدامها للتجارة كوحدة للحساب ولتخزين القيمة، وقيمة المال تُكتسب من قدرته الشرائية التي تنخفض على مرّ السنوات. ورغم هذا الزخم والقوة التي يتمتّع بها المال في المجتمع، إلاّ أنه لا يتعدى لدى الأجداد والأجيال السابقة التي تربّت في كنف أسر تعي تماماً أن المال ليس كل شيء، كونه مجرد وسيلة للعيش والإنفاق لتحقيق الكفاية، وليس غاية وهدفاً نطمح إليه في الحياة، وهم قد اكتشفوا أن تقدير الذات وليس حب الذات هو من الرغبات الإنسانية العليا التي يسمو الإنسان للوصول إليها في النهاية وأن المال هو أدناها، وهي النتيجة ذاتها التي أكّدها بالبحث العلمي أشهر علماء النفس الذين أضافوا المال ضمن الحاجات الفيزيولوجية، وهي الحاجة الأولى والأساسية في هرم الحاجات الإنسانية، واللازمة للوصول إلى قمة الهرم، وهو التقدير واحترام الذات المرتبط بالأنا الدنيا ومترفعاً عن العليا. فالمجهود الأسري التربوي المبذول في الغرس الثقافي الذي تلقاه معظمنا من الأهل في الماضي كان هدفه جعل الغنى هو غنى النفس والعقل وليس المال، فقد فضّلوا الإنفاق في أوجه الخير والتصدّق على المحتاجين، وتجنّبوا الإسراف على ما يُفسد العقل والجسد، وعملوا على تعزيز مفاهيم العطاء والمودة بين الناس كافة، وكان سعيهم أساساً لبناء شخصية أبنائهم معنوياً ونبذ التمسّك بالمادة والمال، ليندمجوا اجتماعياً مع أقرانهم في المجتمع الذي يعيشون فيه. وذلك على النقيض التّام من معاناة شباب اليوم، لاسيما في ظل الظروف الصعبة التي مرّت بها سورية، فقد أصبح معظمهم يشعر بأن حياته رخيصة وبلا معنى دون المال، فلا يكاد يفتح فمه على شيء إلاّ احتاج فيه للنقود، واضطر معظمهم إلى التفكير بمادية بعيدة عن العقلانية بما كان يتمتع به البعض، بسبب وجود العديد من المنغصات في حياته والتي تدفعه مع الآخرين للجري كالوحوش وراء جمع المال، فما كان وسيلة بالأمس أضحى اليوم ضرورة.

إن ما يمكن أن نستشفّه من واقعنا والأحداث التي تواجهنا أن شخصية المرء أصبحت مقترنة برصيده في البنك وما يملكه من عقارات وسندات وأسهم، بغضّ النظر عن المستوى التعليمي والمعرفي، فالمال والنفوذ السياسي أصبحا مُسيطرَيَن على مجرى الوقائع والأحداث في العالم أجمع، وان استمرار التعلّق بحب المال قد يؤدي إلى نتائج كارثية لا تُحمد عقباها، فبناء أي شخصية يجب أن لا يعتمد على مقدار المال المُكتسب بل على مقدار التحصيل الثقافي والمعرفي لدى الفرد، فالرؤية المتكاملة في المجتمع، تدعونا لعدم إعلاء صفة المادة الممثلة بالمال على صفة الإنسانية الممثلة بالعقل البشري الذي أبدعه الخالق، فالإنسان هو من سخّر المال لخدمته وليس العكس، ومن غير المعقول أن نجعل علاقاتنا الاجتماعية في البيئة المحيطة مرهونة بالمصالح الشخصية والمنافع الذاتية، فقد أصبح المال اليوم أقوى من صلة القرابة بالدم، ونحن على يقين أنه لا وجود لعالم مثالي، لكن يوجد عالم نتكيّف معه ويسوده مبدأ العيش المشترك بعيداً عن الماديات.

العدد 1105 - 01/5/2024