آهات الفرات

صفوان داؤد:

تأثرت خلال العقدين الأخيرين حوالي 94% من الجغرافيا السورية بالتغيرات المناخية، وأدت السياسات الاقتصادية التحريرية للحكومة السورية، وزيادة السكان وازدياد أنماط الاستهلاك، وأسلوب الحياة غير المستدامة، إلى تغيرات كبيرة في جودة الأراضي، ما أدى إلى انخفاض مخصصات الفرد من الأراضي الزراعية وحتى من مساحة الغابات والمراعي. والسؤال الذي لابد من طرحه: هل البرامج الاقتصادية للحكومة السورية كانت تعي تماماً دور القضايا البيئية وأثرها على السيرورة الاجتماعية والاقتصادية للدولة؟

قد لا نختلف في أن تدهور المجتمعات الزراعية في حوض الفرات السوري كان ناجماً عن عوامل مناخية وبيئية قاسية، لكن هذا يختلف عن استراتيجيات (تأزيم الأزمة) التي مارستها في تلك المنطقة الحكوماتُ السورية المتعاقبة، إذ كان من الممكن تخفيف حدة تأثيرات هذه العوامل بخطط ملائمة، لكن ما حصل أنه في ذروة موجة الجفاف التي ضربت سورية قامت الحكومة السورية بتحرير أسعار المشتقات النفطية ورفعها، تحديداً مادة المازوت. إن ما حصل تماماً في حوض الفرات السوري هو ضحية سياسات تحريرية ولبرلة ساذجة تقدمت تحت ضغط دورة من الفساد ضمن مؤسسات الدولة، التي جانبت قطاع الزراعة ووضعت كل ثقلها في قطاعي العقار والخدمات ذات العوائد السريعة، فيما كان صانعو القرار يحلقون بفقاعة الحل النيوليبرالي كحل لرفع قيم النمو، وكسبيل لتحقيق فوائد شخصية من دعمهم وتساهلهم مع تخريج حركة رأس المال تشريعياً وقانونياً نحو السوق الريعي.

تعتبر وفرة المياه عاملاً حاسماً في تأثيره على البنية المجتمعية-الاقتصادية لسكان حوض الفرات، لذلك فإن قضية الأمن المائي لابد أن تشكل هاجساً عميقاً لدى النخب السياسية والتشريعية في سورية، خاصة بعد أن دخلت هذه القضية كإحدى الوسائل لتحقيق مكاسب سياسية خلال الأزمة السورية، وتحكمها بشكل ما بتغيرات النفوذ والمسار المستقبلي للوضع العام لمستقبل البلاد. وقد أدت سيطرة (تنظيم الدولة) على هذا الحوض منذ عام 2013 حتى بداية 2018 إلى زيادة الأمور سوءاً. وكانت موجات الجفاف المتكررة التي شهدتها المنطقة الشمالية الشرقية من سورية في العقدين الأخيرين قد أثرت سلبياً على موارد المياه، وأدت إلى انخفاض حاد في المحاصيل الزراعية، وهجرة مئات الألوف من قاطنيها. ووثقت منظمات ومؤسسات محلية ودولية مثل وزارتي المياه والزراعة، ومنظمات مختلفة مثل (إيكاردا) و(الفاو) تقارير مهمة عن الجفاف في حوض الفرات، وتدفع البيانات والمعطيات في هذه التقارير إلى ضرورة اتخاذ إجراءات حكومية عاجلة ومُلحة، ويأتي هذا الإلحاح من حقيقة أن منطقة الشرق الأوسط بما فيه سورية هي في خطر اضطرابات اقتصادية واجتماعية قد ترتبط بهذه التغيرات المناخية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تغيّر السياسات المائية الاقليمية لدول الجوار.

رغم ذلك حاولت الدولة السورية عبر خطط عمل وطنية، وعبر الالتزام بتطبيق معايير اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، حاولت مكافحة التدهور البيئي وتصحر الأراضي عبر استراتيجيات عدة منها تنمية الموارد الطبيعية، ودعم محطات بحوث الري والزراعة الحافظة، ومشاريع تطوير البادية وتثبيت الكثبان الرملية، ومكافحة التصحر. لكن للأسف، وكما هو الحال في معظم قطاعات الدولة الأخرى، وقعت وزارة الري تحت وطأة الفساد وسوء الإدارة، فبينما زادت الخدمات اللوجستية للمديرين ورؤساء الأفرع والأقسام من سيارات ورحلات خارجية وأجهزة حواسيب وغيرها، غاب البحث العلمي وتطوير الكوادر المتخصصة عن متطلبات النشاط الزراعي، هكذا وبحسب الوكالة الألمانية للتعاون التقني مثلاً بقيت نسبة المتعلمين من هذه الكوادر قليلة، في حين أن 40 إلى 60% منهم لم يتجاوز مرحلة الاعدادية. كما غابت الخطط الواقعية للتطوير؛ فمثلاً، شبكة الري في وادي الفرات المنشأة بمعظمها منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تتسبب بهدر كبير للمياه، ولا يسمح تصميمها الكلاسيكي باستخدام أساليب الري الحديثة. إن أنظمة الري الحديثة مُكلفة، وعزوف الدولة عن تأمينها للمزارعين دفع هؤلاء إلى الاستثمار في حفر الآبار أو الاستمرار في استخدام جر المياه التقليدي، وبدلاً من التمويل في تطوير شبكات الري ذهبت الاستثمارات الحكومية إلى قطاع الخدمات العقارية والسياحية كما ذكرنا سابقاً. وللأسف وبينما انخفضت معدلات الفقر في معظم أجزاء سورية بين عام 1996 و،2010 ارتفع عدد الفقراء في شمال شرق سورية، حيث تركز 58,1% من فقراء سورية في المناطق الريفية من محافظات حوض الفرات، واحتلت هذه المنطقة أيضاً أعلى نسبة من الناس الذين يعيشون تحت خط الدولارين يومياً في سورية. لذلك لن يكون من المستغرب انبثاق (تنظيم الدولة) في هذه المنطقة من سورية، والسياسات التنموية الفاشلة ستكون سبباً بشكل أو بآخر لنشوئه.

نتيجة الحروب والجفاف، تعرّض حوض الفرات لأضرار بيئية وزراعية واسعة النطاق. وبغض النظر عن المسؤول، فإن النظام التشريعي والمؤسساتي في دمشق سيكون عليه مسؤوليات كبرى في هذا الشأن، أهمها على الإطلاق قضايا وفرة المياه المرتبطة بشكل أو بآخر بديناميات إقليمية سياسية وقانونية دولية، وأخرى تقنية وبحثية، واقتصادية واستثمارية، ذلك أن مياه الفرات آخذة بالتضاؤل بسبب تناقص الإيرادات المائية من تركيا، وتناقص المعدل العام المطري. حوض الفرات هو مصدر معظم ثروات سورية، وكان وسيبقى سلة غذائها واستقرارها الاقتصادي. الآن بعد سقوط (تنظيم الدولة) وعودة الحياة تدريجياً، يترتب على الدولة السورية مهمات صعبة للغاية، لأنها ستواجه سلسلة من المشاكل المعقدة: محدودية الموارد المائية، أنظمة الري المتهالكة، أساليب الزراعة البدائية، إعادة توطين مهجري الحرب، العدالة في توزيع الثروة المائية. الأهم من كل ذلك هو الصيغ السياسية التي يمكن أن تقود مرحلة إعادة الاستقرار في وادي الفرات، إذ لا يمكن مواجهة مُعضلات الوادي العميقة في ظل حكم نظام إداري بيروقراطي وممنهج بالفساد؟ نأمل فعلاً ان تنجح السياسات التنموية مستقبلاً في هذا الجزء من الوطن.

العدد 1104 - 24/4/2024