الذكرى الـ11 لرحيل مراد يوسف حياة كُرِّست للنضال

في مثل هذه الأيام، قبل 11 عاماً، تكبّدت الحركة الشيوعية في سورية خسارة فادحة بوفاة أحد مناضليها الشجعان، الذي ترك بصماته العميقة على مسيرتها خلال حوالي خمسين عاماً: مراد اليوسف، ابن محافظة القنيطرة، الوطني العريق، والمكافح الذي لم يكلّ، عن مثُل العدالة الاجتماعية وقيمها، والذي اقترنت لديه الأقوال بالأفعال، وامتاز بالصدق وبساطة التعامل مع الرفاق، والاستقامة، والتواضع والإنسانية، لم تغيّر من معدنه المناصب الحزبية التي حصل عليها بنضاله وتضحياته، لقد بقيت سجاياه الطيبة كما هي، أحبَّه الرفاق، واحترموه، وكان بالنسبة للكثيرين منهم نموذجاً يحتذى به.

في حي المهاجرين، بدمشق، تعرفت عليه من خلال ابن شقيقته الشيوعي الباسل فايز جلاحج، كان بالنسبة لنا مثالاً وصديقاً، ورفيقاً وشقيقاً أكبر.

التقينا في سجن المزة أثناء الوحدة، وكان قد سبقنا إليه، وفيه تعرّفنا بصورة أفضل على خصاله ومعدنه الحقيقي، ففي السجن يُعرف الإنسان على حقيقته، وتظهر نقائصه ومزاياه الخيرة، يظهر السلبي والإيجابي فيه، وأنت تحكم عليه من خلال سلوكه العام، ومن خلال تعامله مع حقائق السجن، عشنا معه مرارة السجن، وجمال العلاقات الإنسانية  العميقة بين الرفاق، وكم كان نقاؤه رائعاً! هذا النقاء تبدّى بأحلى تجلياته في كثير من المواقف التي عشناها أو واجهناها في السجن.

عندما حقق معه الجلادون، أظهر تفوقه عليهم بكل وضوح، كانت السياط تنهال على جسده المريض، وكان الجلادون ينتظرون بفارغ الصبر أن يعلن عن توجّعه، أن يصرخ، أن يقول شيئاً ما، كي يجدوا لأنفسهم مبرراً لإيقاف التعذيب، وكي يظهروا بمظهر من حقق إنجازاً ما، إلا أنهم فشلوا في ذلك، لم تستطع السياط أن تنتزع من شفتيه آهة توجّع واحدة. عجز الجلادون وخرج أبو سامي (لاحقاً أبو جولان) منتصراً، رغم جراحاته العميقة، ورغم الدماء التي نزفت منه، فأية قوة روحية كانت تكمن في هذا الرجل، كي يستطيع، بِصَمْتِه أمام العذاب، أن ينتصر، وأن يجرّ الهزيمة على جلاديه! أي إيمان عظيم بمثُل الوطنية والعدالة كان يملأ كيانه، كي يقاوم وكي يقف كالعملاق أما معذبيه الذين بدوا صغاراً رغم كل ما كان ما يحيط بهم من جلاوزة!

لقد أعطانا أبو سامي العزيمة، نحن الذين كنا أصغر سناً، ولم تعركنا بعد التجارب، ولم نخُض بعدُ غمارَ نضالٍ حقيقي.

يخرج الشيوعي مراد يوسف من السجن رافع الرأس، بيد أن تواضعه  الجم لم يتغير أبداً، لم يشعر بالفخر، بل تصرّف على أنه قام بواجبه فقط، في سياق نضاله تسنّم مراكز حزبية قيادية متعددة، وعاش نشاط الحزب ونضاله اللاحق كاملاً بروحه وقلبه، وهو كشيوعي مبدئي لم يستطع أن يتماشى مع ما جرى للحزب من انقسامات لاحقة، وكان ألمه تجاه ما حدث كبيراً، ومع ذلك فإنه ناضل من أجل عودة وحدة الشيوعيين، واليسار عموماً، وكانت ثقته بالمستقبل لا تتزعزع.

قبل 11 عاماً غادرنا أبو سامي وفي أعماقه نداء موجه إلينا جميعاً، موجه إلى أجيال المناضلين الذين سيأتون، نداء يدعو إلى البحث المستمر الذي لا يتوقف عن كل جديد، وعدم القبول بالسكون الذي يقود إلى الجمود، نداء يدعو إلى الأمل رغم كل تعقيدات الحياة والظروف والظلام الذي يحدق، نداء يدعو إلى ما تحلم به الشعوب جمعاء، نداء إلى الحرية إلى النور.

العدد 1104 - 24/4/2024