التنويريون في العالم العربي قديماً وحديثاً

يونس صالح:

لكي نتعرف على التنويريين في تفكيرنا قديماً وحديثاً، علينا أنت نتعرف أولاً على معنى التنوير كحركة فكرية معروفة في أوربا في العصر الحديث.. ما هي مقدماتها ونتائجها وروادها؟ وهل كان في تفكيرنا في العصر القديم شبيه بهذه الحركة؟ وإذا وجدت فمتى بدأت؟ ومن هم روادها؟ ولماذا توقفت؟ وهل هناك ما يثبت أسبقيتها على التنوير الأوربي؟ والتنوير في تفكيرنا الحديث هل هو امتداد للعرب الأقدمين، أم أنه مسايرة للتنوير الأوربي الحديث؟

التنوير في معناه العام حركة فكرية تعتدّ بالعقل، وتعتمد عليه، وتقرر أن وعي الإنسان هو العامل الحاسم والشرط الأساسي في تقدم المجتمع وازدهاره، وأن ما يحدث للمجتمع من أضرار وشرور هو نتيجة منطقية للجهل بفهم الطبيعة الإنسانية.

وإذا كان عصر التنوير معروفاً عند الأوربيين في القرن الثامن عشر، فقد سبق ذلك بدايات ومقدمات لعلها بدأت بنهضة جارفة في القرن الخامس عشر ضد قيود العصور الوسطى، لتخرج الناس إلى رحاب الكون الفسيح، فكانت الكشوف الجغرافية في البر والبحر، وكانت جولات المناظير في السُّدُم والنجوم، وكان تغلغل الفكر الفلسفي في خفايا العقل ليرى حقيقته وكيف يعمل وما حدوده!

ثم جاء القرن السابع عشر الذي يسمونه في أوربا بعصر ديكارت والديكارتيين ومعهم صفوة من الكتّاب الذين يعتدون بالعقل وأحكامه.

حتى إذا جاء القرن الثامن عشر كان بعينه هو عصر التنوير، عصر فولتير وروسو وديدرو وشيلر وكانت، وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الذين يكونون حلقات هذه السلسلة التي صنفت ما يسمى التنوير الأوربي في العصر الحديث.

وعلى ضوء المعنى العام للتنوير، ومعناه الفلسفي وشعاره والتأريخ له، يمكن القول إن الإنسان الذي توصف أعماله بأنها تنويرية هو ذلك الإنسان الذي يستخدم عقله دون مؤثر خارجي وبغير مرشد.. فيما يقوم به من عمل، الفكرة تنبع منه، وهو المسؤول عنها.

وقياساً على ذلك هل يمكن أن نتبين معنى التنوير في تفكيرنا القديم؟ هل يمكن تبين الاعتداد بالعقل الذي هو أساس حركة التنوير والاهتمام به منذ ظهور الإسلام؟!

يمكن القول بثقة إن التنوير الذي عرفته أوربا في القرن الثامن عشر، عرفت مثيلاته تقريباً الحضارة العربية الإسلامية في القرن العاشر وامتداده في القرن الحادي عشر الميلادي، إذ نلمح معنى وشعاراً له فيما رسمه أبو العلاء المعري لمدرسة فكرية متكاملة في الثلث الأول من القرن الحادي عشر، إذ قال شعراً:

زعم الناس أن يقوم إمام

ناطق في الكتيبة الخرساء

كذب الزعم لا إمام سوى العقل

مشيراً في صبحه والمساء

إن هذا الذي عرفه أبو العلاء المعري ونبه إليه، عرفه كذلك من قبل ومن بعد فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية وعلماؤها في المشرق والمغرب، فقد كان اعتدادهم بالعقل وتعويلهم عليه في حل ما كان يواجههم من معضلات في فهم الوجود والكون والإنسان، حتى إن الفارابي الملقب بالمعلم الثاني ذهب إلى أن: (واجب الوجود عقل محض، يعقل ذاته بذاته، فهو عاقل ومعقول في آن واحد)، وعرفه الشيخ الرئيس ابن سينا الذي ذهب إلى أن (العقل البشري قوة من قوى النفس لا يستهان بها)، وعرفه المفكر الفيلسوف ابن رشد حين دعا في كتابه (فصل المقال) إلى نظر الموجودات ومعرفتها بالعقل.

وهكذا استطاع العقل العربي – الإسلامي أن يقدم تراثاً فكرياً وفلسفياً وعلمياً أضاء ظلام أوربا فيما بعد، وفجّر فيها عصراً جديداً في مجالات عديدة، وكان له دور في تكوين الفكر الأوربي الحديث، دور واسع المدى وعميق الأثر. وباختصار إن العقل العربي أسهم في تكوين العقل الأوربي الحديث، حيث تمت عملية الإخصاب الفكري بين العقل العربي البالغ كمال تطوره وتنويره في ذلك العصر، والعقل الأوربي وهو في سبيل يقظته وتلمس طريقه، ونتج التقدم الأوربي الوليد من هذا التلاقي، فالنهضة الأوربية الحديثة، وبالتالي عصر التنوير الأوربي.

كان من الطبيعي أن يساير العقل العربي في يقظته الحديثة روح العصر، بما فيه من تنوير، بعد مرحلة من الجمود والتخلف عاش فيها أسير نكسة كاملة في كل شيء، فظهرت بوادر الرغبة في النهضة، ولن يكون ذلك إلا بالاعتداد بالعقل، وبالتالي تبدو ملامح التنوير ولو بصورة خام أو جنينية في جهود وأعمال عدد من العلماء والمفكرين والمصلحين، وفي مقدمتهم الشيخ حسن العطار والطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم.

فنرى الشيخ العطار يخالط الفرنسيين ويتأمل أسلوب حياتهم ليقول فيما بعد: (إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ولن يكون ذلك إلا باستخدام العقل).

ونرى تلميذه الطهطاوي يطالب بسيادة القانون والحرية، كما يطالب بتعليم البنات ويتبنى دعوات إصلاحية قائمة على العقل وغيرها من الجهود جعلت منه رائداً للنهضة المصرية الحديثة.

ونرى جمال الدين الأفغاني يقول في العروة الوثقى: (الأمة التي ليس لها في ترشيد شؤونها حل ولا عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحاكم واحد إرادته قانون ومشيئته نظام.. يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.. تلك أمة لا تثبت على حال، ولا ينضبط لها سير)، حتى ينتهي إلى القول إن الأمم التي لا تسيِّرها عقول المخلصين من أبنائها مقضيٌّ عليها بالزوال.

ونرى الشيخ محمد عبدو يهاجم التقليد بوصفه ينقل آراء الغير دون المطالبة بدليل عقلي ودون الالتفات إلى حق كل شخص في استقلال النظر والفحص، وباختصار أن يفكر بنفسه لا أن يفكر له، لأن التفكير كما يراه الشيخ فرض عين، أي لا يصح أن يقوم شخص نيابة عن آخر في هذا الأمر، لأن ماهية الإنسان هي ناطقيته، وهذه الناطقية لها شرطان: تحقيق الوعي، ويقظة الضمير، فيكون الإنسان واعياً حين العمل وعاملاً حين يفكر.

ونرى الكواكبي يطالب بتحكيم العقل في كل أمورنا حتى في النظرة إلى الدين، فهو يقول: (ما أحوج الشرقيين إلى حكماء يجددون النظر في الدين.. إن كل دين يتقادم عهده يحتاج إلى مجددين).

يأتي بعد هؤلاء المنورين آخرون مثل طه حسين وجيله، وفي مقدمتهم العقاد والمازني والحكيم وغيرهم ممثلين لهذه الحركة في المئة عام الأخيرة، وكانت الوسيلة التي اتبعوها هي العلم.

يقول طه حسين: (العلم طريق العقل، ليس لبلوغ الحقيقة وحدها، ولكن لتنظيم حياة الإنسان داخل المجتمع الذي يعيش فيه)، ولذلك كانت روح التنوير عندهم شديدة العداء للجهل والخرافة والتفكير اللاعقلي بوجه عام. وتمتد هذه الحركة التنويرية إلى ما بعد جيل طه حسين، فنرى علماء وأدباء ومفكرين كلاً في مجاله تخصصه، وتتسع حركة التنوير لتشمل أجيالاً متعاقبة في كل البلدان العربية، وليكون من بين أبنائها نماذج واعية تعلن بأعمالها وأفكارها القائمة على الاعتداد بالعقل محاولة استعادة العقل العربي التي افتقدها لفترة طويلة من الدهر.

إن نظرة واحدة إلى نتاج فكر رواد التنوير ورجاله في البلدان العربية قديماً وحديثاً، تؤكد أن فكرهم اتسم بالجسارة الجوهرية وليس العارضة، إذ نادوا بإصلاحات في وقت لم تكن الحياة مستقرة، بل على العكس كانوا يعيشون في ظل الطغيان والاستعمار، والأكثر جمود الفكر وتخلفه، لكنهم مع ذلك بشروا بفكر جديد قائم على العقل، مما يدل على مقدار الجسارة التي كان يتسم بها هؤلاء، جسارة تضعهم في صفوف الأبطال، وأي بطولة تحسب لهؤلاء وهم ما لبثوا أن خرجوا من الظلمة التي عاشوها حتى كانت أصواتهم عالية كل في مجاله يدعو إلى إعادة صياغة المجتمع من جديد بتوجيه العقل.

 

العدد 1105 - 01/5/2024