اعترافات عربي مُسَهد

غياث رمزي الجرف:

منذ أن سُئل (أدونيس)، على ذمة (سوسن الأبطح) في صحيفة الشرق الأوسط، لو انتزعنا من الثقافة العربية اليوم مؤثرات الفكر الغربي كلها، وجميع أشكال التأثير الغربي، ماذا يبقى فيها، وماذا يبقى منها؟ فأجاب: ((لا شيء غير هذا الفكر الخارج من الكهوف)) (..؟)

ومنذ أن فكّرتُ في (تهافت الفلاسفة) و(تهافت التهافت)، وفي مشكلات (الربيع) العربي، والثورة والثورة المضادة، وفي قضايا العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية والجنس الآخر، والمرأة في منظورها الاشتراكي والرأسمالي والإسلامي والوجودي والحياتي الواقعي المعيش، وفي الحداثة وما بعد الحداثة، وصراع الحضارات وحوارها، ومنذ أن فكّرتُ في الدعوات المتواترة إلى تجديد الخطاب الديني هنا وهناك، وفي الإنجازات الاجتماعية والفكرية والأدبية لعصر النهضة العربية، وكيف تمّ الالتفاف عليها والتراجع عنها وتفتيتها.

ومنذ أن تأمّلتُ في الذي جرى، ويجري، على الجغرافية العربية، ولا سيما الجغرافية السورية والفلسطينية واليمنية والعراقية، من قتل وقمع وحرق وتجويع وإذلال وتعذيب وتدمير شامل (مادي ومعنوي) في مختلف الميادين وعلى جميع المستويات.. ومحاولات تفتيت المفتت وتجزئة المجزّأ.. وجرائم تخطّتْ جرائم جنكيز خان والنازية والفاشية وتجاوزتها، وفي هذا العمل المتواصل على إعادة البلاد والعباد إلى ظُلُمات القرون الوسطى، ومنذ أن تأمّلتُ كيف غطّتْ مفردات: المرض، الفقر، الحرمان، الجوع، الحاجة، الإهانة، الألم والوجع، غطّتْ حياتنا وصارت تلتهمنا كما تلتهم النار الهشيم.

ومنذ أن شاهدتُ سقوط ورقة التوت عن الكثير من الأنظمة (العربية) والمَمْلكات والمَشْيخات والسَّلْطَنات وبعض الأطراف الخارجية والمحلية المتخاذلة والمتواطئة والمتورطة في سفك الدماء العربية (…) وسقوط أقنعة بعض المثقفين والكتّاب والصحفيين (المارينزيين) و(النفطيين)، وسقوط، كذلك، أقنعة بعض (نجوم) الفضائيات العربية، وغير العربية، من المحللين السياسيين والعسكريين والفكريين والاستراتيجيين، الذين يعشقون رائحة الورق الأخضر الأمريكي ويطربون لها. ومنذ أن رأيتُ هذا الاستسلام المجاني للطاعون الأمريكي/الإسرائيلي نفسياً، عقلياً، جسدياً، سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً، أمنياً، معرفياً وحضارياً.

ومنذ أن وجد العالم نفسه في خضم هذه الحقبة الأمريكية المعولمة والمثقلة بالدموية وبالنفاق والرياء والمخادعة والمداهنة، هذه الحقبة الطالعة في أرضنا العربية طلوع الروح في (هيروشيما) و(ناغازاكي). ومنذ أن استمعتُ، حتى سيلان أُذني الوسطى، لهذا السياسي الفذّ، وذاك الإداري العبقري، وهما يَتَفَيْهَقان، ويرفعان عقيرتهما حتى عنان السماء، وينسابان بين (الرعية) والسادة والموظفين انسياب الأفعى الرَّقْطاء، وهما، حقاً وحقيقةً، مَسْخان لا يعرفان الفرق بين (السُّلْطَة والسَّلَطَة)، والوطن وأهله بالنسبة لهما ليس أكثر من محفظة جيب وشيكات.

ومنذ أن تفشت في الأدبيات العربية، ومعظم الخطاب العربي الرسمي ووسائل إعلامه المختلفة، و(نخبه) المعلبة والمبرمجة وفق أجندات داخلية وخارجية، تفشت كلمات مفتوحة لا يُعرف لها قرار: إرهابي، متشدد، تكفيري، متطرف، سلفي، ظلامي، وهّابي، استبدادي، معتدل، مغامر، متزن، توفيقي، وسطي.

ومنذ أن كتب الغائب الحاضر محمد الماغوط: ليس من الضروري أن يكون الإنسان محاطاً بالفيلة والقرود وصرخات طرزان كي يشعر أنه يعيش في غابة.. فقد يكون في حفلة راقصة محاطاً بالابتسامات والانحناءات، ومع ذلك يشعر أنه يعيش في غابة (..؟). منذ ذلك كله ضاق صدري، وزفرت النار من أعلى ظهري لغاية (ذيل الفرس)، وصرتُ بعد (هياط ومياط)، على حدّ تعبير أبي العلاء المعري في رسالته الغفرانية، أرتقي سطح بيتي مساء كل يوم، عبر الفصول الأربعة، وسواء أكانت السماء تبكي حمماً أم برداً، وأحدّق في فضائي وكواكبه السيّارة واضعاً يدي اليمنى على قلبي، وأصابعي اليسرى في فمي، أنتظر ما أعرف، وما لا أعرف، وقطرات الندى تتناثر فوق خدود (ورداتي) وهنّ ينشدن:

غابهْ كلابها ديابا ونازلين في الناس هَمْ

واللي ينام في الغابهْ رحْ يتّاكل هَمْ

غابهْ بتاكل ميتهْ غابهْ بتشرب دَمْ

غابهْ وناسها غلابهْ خيخهْ لا ناب ولا فَمْ

واحنا يا ملح الغابهْ هَمّ يحرّك هَمّ!

وأنا أغمغمُ.. وأغمغمُ:

قومٌ يبيعونَ للشارين عزّتهمْ والعرضَ والدينَ والدنيا بدينارِ

لا يفرقونَ إذا أثروا أكلّلهمْ تاجٌ من الغارِ أم تاجٌ من العارِ

وأعترفُ، إلى جانب ما تقدّم أعلاه، أنني منذ أن علمت أنّ عصير نبات الجرجير ومنقوعه وأوراقه تزيل أعراض التسمم بالنيكوتين، وتقف بكل ضراوة وعنترية ضد الإفراط في التدخين مثل ضراوة وعنترية الليبراليين الجدد الناطقين بالعربية، حينئذٍ قلتُ: يا جبار!! وغدوت مفتوناً بلفافة التبغ افتتان نزار قباني بها، وبالشام وياسمينها، ولم تستطع كل الأقبية العربية الضيقة والفسيحة، وعموم شبكات الإنتربول الدولية، وجميع أجهزة الأمن البريطانية والأمريكية بقدراتها الفائقة على التلفيق والادعاء والكذب والتكاذب، لم تستطع فكّ هذا الارتباط العشقي النازف بيني وبين سيجارتي الحانية التي تأخذني إلى حيث الانطفاء.

ومنذ أن أبحرتُ، قليلاً، في أسفار التاريخ والجغرافيا والحساب والجبر والهندسة الفراغية، نسيتُ تاريخ ميلادي، نسيتُ حليب أمي، وصار عمري ورائي، وبيتي بلا سقف وبلا أبواب، والعراء خلّي الوفي، وحدودي أمستْ مثل واقعية (روجيه غارودي) بلا ضفاف يعابثها (أبو رغال) ويستبيح دمي وخارطتي، وأضحت حياتي جبرية، محطمة الزوايا، بلا حساب، مهمّشة، فارغة حتى من الأوكسجين.

العدد 1104 - 24/4/2024