صناعة الفقر في سورية

صفوان داؤد:

دخلت سورية منذ عام 2011 في أوضاع امنية بالغة الخطورة أصابت بشكل مباشر البنى الإنتاجية والخدمية، وأثرت بشكل حاد على الدورة الاقتصادية في البلاد، ترافقت معها ظروف اقتصادية ما انفكت تزداد صعوبة، خاصة على مؤشر تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين، وتفاقم معدلات الفقر إلى مستويات تاريخية لم تعهدها سورية منذ نشأتها.

عادةً ما يقاس الفقر في المؤشرات الأكاديمية المعتمدة من قبل المنظمات الدولية بمقاربات إحصائية مادية للفقر الذي يَعُدُّ شخصاً ما فقيراً إذا لم يكن يملك ايرادات تكفي لحياة كريمة بحدودها الدنيا، بمعنى أن المؤشرات المستخدمة لقياس الفقر ترتبط بقدرة الفرد المواطن التلاؤم مع الأسعار والإنفاق على السلع وفواتير الخدمات. غير أن المختصين غالباً ما يواجهون العديد من العقبات عند تطبيق مؤشرات الفقر، منها عدد هذه المؤشرات التي يمكن استخدامها، وماهي المعايير في اختيار حدي الفقر الأدنى (الفقر المدقع) والأعلى (الفقر العام)، لذلك عادة ما يفضل العديد من المختصين تخفيض عدد المؤشرات قدر الإمكان لتقليل نسبة الخطأ في قياس الفقر إلى حدوده الدنيا. وهي عادة ما تُحدد بناءً على مسح إيرادات ونفقات الأسرة، في مكان الإقامة (حضر أو ريف) وعلى مستوى المحافظات، مع تعديلات مرتبطة بمعدلات التضخم حسب كل محافظة، أيضاً استخدام مسح قوة العمل، وتجميع الأجر الرئيسي والثانوي على مستوى العامل ثم عائد العمل على مستوى الأسر.

في عام 2006 وللمرة الاولى جرى إدراج حل قضية الفقر كمقاربات جديدة للحكومة السورية ضمن الخطة الخمسية العاشرة للأعوام 2006-2010، وشكلت هذه السياسات أهدافاً بعيدة المدى تتمحور على تحقيق نمو عام لصالح الفقراء، تخفيض نسبة انتشار الفقر الشديد، وتحسين العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية والاستثمار في رأس المال البشري. وشكلت قضايا التفاوت والفقر عنصرين أساسيين في هذه الاسراتيجية التنموية ضمن هيئة التخطيط والتعاون الدولي في الحكومة السورية منذ عام 2006 مستندة على معايير ودراسات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2005. غير أن انتهاج الاقتصاد السوري وقتذاك ما سمي (اقتصاد السوق الاجتماعي) الذي ركز على الاستثمار في السوق الريعي، وأهمل الجوانب الحاسمة في النجاح الاقتصادي من قبيل الشفافية وتوسيع الفرص وحرية الإعلام وحق المساءلة وتطوير المجتمع المدني وشبكات الحماية الاجتماعية للفقراء، فإنه بحلول نهاية الخطة الخمسية العاشرة عام 2010 فشل مشروع مكافحة الفقر أو الحد منه لعدة أسباب، منها تراجع معدلات المشاركة في قوة العمل في سورية بشكل واضح من 52% عام 2001 إلى 42.7% في عام 2010. أي أن هناك عملية إقصاء شرائح كبيرة من القوة العاملة المؤهلة للمشاركة في الحياة الاقتصادية، وعدم قدرة الخطط الحكومية تحقيق نمو يخلق فرصاً حقيقية للعمل. كما لم تدعم مساهمة القطاع الخاص في تكوين الناتج المحلي الإجمالي من 58.4 % إلى 62.5 % بين عامي 2001 و2010 في ارتفاع مساهمته في التشغيل، بل انخفضت هذه المساهمة بشكل طفيف من 73.2% إلى 72.9 %، وانخفضت مساهمته في تشغيل الإناث من 63.2% إلى 43.5%، وهذا يعطي مؤشرات خطيرة حول سلامة المجتمع السوري.

وبحسب تقرير الفقر متعدد الأبعاد الصادر عن المكتب المركزي للإحصاء في سورية ومنظمة اليونيسف: (لم تحقق الخطة العاشرة أهدافها المتعلقة بالفقر، بل على العكس فقد ازداد الفقر، كما تفاقم التفاوت بن المناطق، في دليل على عدم نجاح البرامج التي كانت مخططة لتخفيض الفقر في المناطق الأكر حرماناً).

ومع دخول سورية أزمتها عام 2011 التي ربما كان فشل الخطة الخمسية العاشرة أحد أسبابها ونتيجة ارتفاع معدلات الإنفاق على الغذاء واستنزاف قيمة الليرة السورية وقدرتها الشرائية، وارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات تجاوزت 1000%، ارتفعت بشكل دراماتيكي نسب البطالة في سورية وتدهورت المعيشة وازداد الفقر فقد سجل عام 2018، نسبة الفقر في سورية 80% مقابل 51% عام 2011، و41% عام 2001.

مهما حاولنا تجميل الواقع، ترتبط نسبة الفقر بشكل وثيق بنجاح النظام السياسي أو فشله في أي بلد، ولطالما اندلعت الثورات ضد النظم السياسية التي فشلت ولم تستطع السيطرة على انتشار الفقر في مجتمعاتها، وكانت ومازالت الثورات تشتعل وسيقبى الفقراء وقود هذه الثورات. لذلك نجد أن النظم السياسية تسعى جاهدة للمحافظة على شرعيتها بالتركيز على الجانب الاقتصادي حتى لو جانبت الجوانب الأخرى المتعلقة بقضايا الديمقراطية والمساواة، فكيف بالنظم التي تهمل حتى لقمة العيش لمجتمعاتها ولا تسعى لتحسينها؟!.

العدد 1104 - 24/4/2024