الفن أداة أدلجة أم تحرُّر!؟

سامر منصور: 

حين أريد قراءة التاريخ الإنساني أجد ما ورد عنه في كتب التاريخ التي تُعلّمها الدول لمواطنيها تبايناً وتغييباً وتضارباً، وحين أحاول النظر إلى الفنون باعتبارها وثيقة إنسانية ومرآة للوجدان الإنساني أجدها لوحة فسيفسائية مبعثرة لكل قطعة منها جماليتها وأثرها، لكنها تُريني الحقيقة بعينيّ حلم ولا تعطيني في معظم الأحيان سوى فيضٍ عاطفي. لكن عندما أقرأ الأعمال الفنية التاريخية بضوء علوم كالإنثروبيولوجيا والسوسيولوجيا، أجد في هذه العلوم العقد الجامع والنور الكاشف لما تكتنزه هذه الإبداعات التي كانت تنحاز للجمال أو للإنسان في معظمها، وتُشكّل نزعة الفنان إلى عالم أجمل وصورة أمثل تحرراً من ثقل الإيديولوجيات السائدة، وأنا لا أتحدث هنا عمّن اتخذوا الفن وسيلة إثراء وبروز اجتماعي، بل أتحدث عن الفنانين الكبار الذين ينظرون إلى الفن بوصفه قيمة عليا.

الفنان إما أن يكون غاوياً وإما أن يكون نسّاج نور، وذلك رهين نظرته إلى الفن وعتبة الوعي التي يتمتّع بها، فمن ينظر إلى الفن كوسيلة لتحقيق مصالح شخصية فحسب ليس كمن ينظر إلى الفن كأجنحة تحمله إلى ما هو كوني ويسبر به أغوار سماء النفس البشرية. إن الفنان الغاوي الذي يتبع ويداعب الحس العام، ويستثير العواطف العامة بغية نيل رضا المؤدلجين والمتنفذين يزول هو وفنه بزوال هؤلاء، وكما يقول النبي محمد (لا دين لمن لا عقل له).

أقول لا فن لمن لا ضمير له ولمن لا يمتلك عتبة لائقة من الوعي والثقافة.

كان للنازية والفاشية فنانوها وفنونها، لكنها ذهبت واندثرت، لأنها قيمة استعمالية في مجتمعات قال عنها عدد من المؤرخين إنها كانت تعاني ذُهاناً جماعياً، وكذلك مصير فناني الكيان الصهيوني. وقد شهدنا في البلدان العربية مواقف متباينة من قبل فنانيها إزاء الأحداث التي عصفت بها.

وبالنسبة لي لا أكترث ولا أتوقف عند أي موقف من أي مسألة لمن يمارس فنوناً ترفيهية لا تحتاج إلى ملكات عقلية متقدمة كالمطربين وغيرهم، بينما أجد أقرب الناس إلى الحقيقة وخير الإنسانية هم الفنانون التأمليون التنويريون، إن صح التعبير، ولأني أرى النمطية والأدلجة متلازمة خطيرة تجهض الحراك التقدمي لأي أمة، أرى الفن بوصفه لا نمطية وثمرة تأملات أفراد أحرار فريدين كونه حالة ثورية، فالفن هو أكثر أشكال الحرية أصالة، ورغم ولادته في زمكانية محددة إلاّ أنه أكثر منتج بشري عابر للزمكان.

إن الفنانين التنويريين لطالما شكلوا قوة أشدّ تأثيراً من مؤسسات بأكملها، وتعرضوا للنفي والاعتقال وأحياناً للقتل، وعلى سبيل المثال لا الحصر الشهيد الرسام ناجي العلي، ومحمد الماغوط، ونزار قباني، والشهيد الأديب غسان كنفاني. وإذا تتبّعنا مقولات كبار العقول البشرية في منحى فن الشعر، على سبيل المثال، لأننا كعرب نشتهر بهذا الفن، نجد شيلي يقول:

)الشعراء هم المشرّعون غير المعترف بهم للعالم). ويقول هايدغر: (الشعراء، عندما يكونون في حقيقتهم، يكونون نبوئيين). ويقول أيضاً: (الشعر هو تأسيس بالكلمة وفي الكلمة، هو تأسيس كلامي للوجود، والشعراء هم الأدلاء)، (التجربة الشعرية تضيء بصورة ممتازة وجود الحقيقة الإنسانية).

ويقول أوكتافيو باث: (الشعر والفكر بالنسبة لي وجهان لعملة واحدة.. الشعر: الكلمة الأسمى للكائن وهو فعل معرفي بامتياز).

من جهتي أرى حتمية أن يتخذ من يمارس الفنون التأملية موقفاً إزاء الأحداث الكبرى، وإن كان العديد من الأدباء وفناني الألفية السابقة اتخذوا مواقف لا منطقية إزاء الحربين العالميتين، إلاّ أننا اليوم في عصر أصبحت فيه الذات المبدعة أكثر وعياً واتزاناً، ومواقف هؤلاء هي الأجدر بالاحترام.

العدد 1104 - 24/4/2024