التقارب السوري العراقي.. مصلحة قومية للعرب

د. رفيق علي صالح:

يعيش العرب في السنوات الأخيرة مآسي قلما مرت على البشرية، حروب داخل البلدان، قصف وحرب من الجهات الأجنبية، دمار للبنى التحتية، تدمير لوحدة المجتمع داخل البلد الواحد، أحقاد طائفية ومذهبية، تطبيع مع إسرائيل، تآمر الأقطار على بعضها، بيع للقضية الفلسطينية، وغير ذلك الكثير.

ويتساءل المواطن العربي، أما وقد وصلت حالة الأمة لهذا الحد، ما هو الحل؟ ما العمل؟ أم أن هناك علاقة عضوية بين العرب والمآسي.

تجزم أن هناك حلول كثيرة لتحسين الوضع في الدول العربية، ومفتاحها هو الحرية السياسية واحترام الرأي الآخر، ودعم إنشاء الأحزاب، والتجمعات الوطنية والقومية، شريطة ألا تمس بوحدة الأوطان، وأن لا تفرق بين المواطنين على أسس غير عقلانية كالقومية والطائفية والمذهبية، والارتباط بأعداء الأمة.

إن أحد المفاتيح التي يمكن أن تخفف من مأساة المنطقة العربية هو التقارب، فهما بلدان متجاوران يشربان من مصادر مائية واحدة (دجلة والفرات)، وتربطهما حدود واسعة، والعادات والتقاليد متقاربة إلى حد كبير.

مرت العلاقات بين البلدين ولسنوات طويلة بتوتر كبير كاد أن يصل لمرحلة الحرب والقتال، ولكني أجزم أن لا علاقة للسوريين والعراقيين بكل ما حصل، وأنهم كانوا يتمزقون من هذه العلاقات اللاعقلانية.

إن نظرة سريعة إلى الواقع الزراعي في البلدين توضح جلياً أهمية التكامل والتنسيق بين سورية والعراق، فسورية التي بلغ إنتاج القمح فيها في بعض السنوات أكثر من 4 مليون طن، وكانت تصدر جزءاً منه إلى العديد من الدول العربية (مصر، تونس، الجزائر، الأردن)، ويمكن أن تؤمن سورية جزءاً من احتياجات العراق من الأقماح، والعراق التي كانت تنتج من التمور ما يزيد على مليون طن، تؤمن احتياجات سورية من هذه الثمرة المفيدة والغنية بمكوناتها الهامة لصحة الإنسان.

يمكن لسورية أيضاً تأمين احتياجات العراق من زيت الزيتون ومن العديد من أنواع الفواكه (التفاح، البرتقال، الكرز.. إلخ)، وكذلك أنواع الخضراوات المختلفة.

ونشير هنا إلى أن حجم الصادرات السورية إلى العراق في السنوات الأخيرة بلغ بحدود 600 مليون دولار، وهو رقم متواضع قياساً بالمتاح بين البلدين.

 

الجانب الزراعي في سورية والعراق

والإمكانات الإنتاجية في البلدين الشقيقين

أرض الرافدين، ومنذ فجر انبثاق الزراعة كانت رمزاً للخصب والإنتاج الزراعي، وقدمت للبشرية أولى القوانين الناظمة لحياة البشر، وكانت هذه الأرض المباركة ولازالت تسمى بأرض السواد كناية عن خصوبتها، التي تتكامل مع وفرة مياه دجلة والفرات، ما جعل أرض العراق تنتج مختلف أنواع المحاصيل الزراعية، وما حدائق بابل المعلقة، وهو إحدى عجائب الدنيا إلا رمزاً لهذا الخصب وهذا النماء.

واليوم، لا يزال العراق الشقيق ينتج الكثير من المحاصيل الزراعية التي تتلاءم مع البيئة، فينتج سنوياً ما معدله 2-3 مليون طن من القمح، و0.5-1 مليون طن من الشعير، وأكثر من 2 مليون طن من الخضار، ونحو 0.5 مليون طن من التمر، كما لدى العراق أعداداً لابأس بها من الغنم تتراوح أعدادها بين 5-8 مليون رأس.

ولكن القطاع الزراعي أخذ يعاني من الكثير من المشاكل نتيجة الغزو الأمريكي لأرض العراق، وما سببه من مشاكل سياسية واجتماعية، يضاف إليها مؤخراً انخفاض الواردات المائية من الأنهار الدولية العابرة للحدود، وأهمها نهري دجلة والفرات، مما جعل الإنتاج الزراعي في العراق غير كاف لسد حاجة السوق من العديد من المحاصيل الزراعية وأهمها الحبوب والخضار والفاكهة والزيوت النباتية، وحتى الأرز محصول العراق الذي يعد فخراً للزراعة العراقية، تعرض للتدهور، وتبعه محصول النخيل الذي كان رمزاً ومصدر دخل مهم للفلاحين العراقيين، كما تقلصت الأرض الزراعية وتملح جزء منها، وغزت الأعشاب الضارة جزءاً آخر، وبشكل عام تعرضت المنظومة الزراعية العراقية لضرر بالغ، مما جعلها عاجزة عن الوفاء وتلبية حاجات الشعب العراقي البالغ عدد نحو 35 مليون نسمة، ومن أبسط قواعد التجارة البحث عن أقرب الأسواق من أجل خفض تكاليف النقل وبالتالي الأسعار، فكان الاتجاه غرباً نحو سورية أخت العراق، والواقع والتاريخ يشهد أن السوقين السورين والعراقية هي سوق واحدة متكاملة منذ آلاف السنين، بسبب الكثير، الكثير من العوامل المشتركة، فالشعبين متقاربان في العادات الاستهلاكية والتقاليد المشتركة، بما في ذلك أنواع الأطعمة والذوق الاستهلاكي.

إن سورية حباها الله بطبيعة جغرافية متنوعة من حيث تعدد المناخات والتضاريش ونوعية الترب، ومعدلات الهطول المطري، ودرجات الحرارة، والسطوح الشمسي، يضاف إلى ذلك مرور الأنهار الكبرى العابرة للحدود وأهمها دجلة والفرات، ونهر العاصي، كل هذه العوامل جعلت من سورية ومنذ فجر الحضارة الزراعية بلداً منتجاً لمختلف المحاصيل الزراعية الفاخرة بنوعيتها، فتغنى الكتاب والشعراء بفاكهة جبال حرمون، وحنطة حوران، وزيتون بلاد الشام، يضاف إلى ذلك الغنم العواس، والماعز الشامي ذي النوعية المميزة، الذي يرعى في البادية السورية متعددة الأنواع النباتية الرعوية، ما يضفي على هذين النوعين من الغنم والماعز نكهة ومذاقاً لامثيل له في أي بقعة في العالم.

ومازالت أرض سورية قادرة على أن تغطي حاجة السوقين السوري والعراقي معاً من غالبية المنتجات الزراعية، والعلاقة هنا ليست تجارية بحتة، وإنما هي علاقة أخوية، فترى التاجر العراق في سورية، والتاجر السوري في العراق تحكمهم روابط التاريخ والمصير المشترك، ووحدة الدم قبل أي علاقة تجارية، ونتيجة للقرب الجغرافي كان ولايزال الإنتاج الزراعي السوري يذهب في العادة إلى جهتين أساسيتين، الأولى نحو العراق، والثانية نحو شبه الجزيرة العربية.

فتنتج سورية 4-5 مليون طن من القمح سنوياً، ومليون طن من القطن، ونحو 2 مليون طن من الفاكهة الفاخرة، و3 مليون أخرى من الخضار، وأكثر من مليون طن من الزيتون، ومثلها من الحمضيات، ولديها 15-20 مليون رأس من الغنم العواس، وهذه كميات ضخمة تفيض عن حاجة السوق المحلية في سورية، وتتميز بانخفاض أسعارها وجودتها العالية، إضافة إلى قربها من الأسواق العربية وخاصة السوق العراقية، وبالتالي يمكن نقلها براً مع توفر المرونة الكافية واللازمة لحركة العرض والطلب من حيث الكمية، والتوقيت، وسرعة الوصول من المنتج إلى المستهلك، أي أنها تصل طازجة (بكل ما في الكلمة من معنى) وكأنها تصل إلى المستهلك السوري في السوق السورية، وهذه ميزات كبيرة جداً حسب الأعراف التجارية.

إن حجم الإنتاج الزراعي كاف لتأمين احتياجات الشعب السوري البالغ تعداده نحو 22 مليون نسمة، ويؤمن جزءاً كبيراً من احتياجات الشعب العراقي الشقيق، وهو يعتبر عملياً أحد عوامل قوة وصمود هذين الشعبين العظيمين، ومخزون استراتيجي لهما.

ورغم عوامل الحروب وعدم الاستقرار السياسي في المنطقة العربية ككل، وبشكل خاص في سورية والعراق جناحي الأمة العربية، فإن تدفق السلع الزراعية لايزال مستمراً بطريقة أو بأخرى، والآن ومع بداية استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية سيزداد هذا النشاط التجاري بين البلدين نمواً وبشكل سريع ومضطر لما فيه مصلحة الشعبين الشقيقين واقتصاديهما.

وتشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المنظمة العربية للتنمية إلى أن حجم السلع الزراعية التي تتدفق سنوياً من سورية نحو السوق العراقية بلغت كمتوسط في السنوات الأخيرة ما قيمته 600 مليون دولار على شكل فاكهة وخضار بشكل أساسي، وحبوب وبقوليات وأنواع زراعية أخرى.

إن المستقبل واعد في تحقيق التكامل الزراعي وتجارة السلع الزراعية بين العراق وسورية، وهذا سيكون أحد عوامل قوة البلدين ومناعة الاقتصادين وتحسين أحوال الشعبين من الناحية الاقتصادية والغذائية، وترفع من المستويات الاقتصادية للفلاحين في البلدين، وتنعكس إيجاباً على العلاقات العربية – العربية، ويمكن أن تكون نموذجاً متميزاً لكل الدول العربية.

العدد 1105 - 01/5/2024