رحيلٌ أخيرٌ، ولكن… الوطن أغلى!

ريم الحسين:

ما إن فكّ قيد الخدمة العسكرية عنهما بعد سبع سنواتٍ حتى جهزا نفسيهما للرحيل، حزما الحقائب!!

ألستم من صنع هذا المجد مع بقية الأبطال على الجبهات! ألستم صانعي هذا النصر بدماء رفاق السّلاح وتعبكم والجراح على أجسادكم وأثر الحرب في سواعدكم يشهد!! هل حقّاً تودّعان آثار الرّصاص عالقاً في مسمعيكما والتراب الذي أكل من شبابكما والأرض الّتي عُمدّت بالزّهر من عرق جباهكما!!

إلى أين؟

هما شابّان في عمر الرّبيع، هذا الرّبيع الّذي حولّه مرتزقة العصر إلى جحيمٍ مطبقٍ، يضعان ذكريات الحرب وما تبقّى لهما من كرامة، كما صرّحا، وبعض متعلقاتهما البسيطة في جعبة هذه المرة ليست للقتال وإنّما للسّفر خارج هذه البلاد.

(ما تبقّى من كرامة) كان الاعتراض، لماذا تحتجّين؟ هذه هي الحقيقة، بعد ما تعرّضنا له من خذلان، هل حقّاً تعتقدين أنّ لنا إرثاً على هذا التراب؟!!

قضينا سني الزّهو في الحرب على السّواتر وبين البنادق وأزيز الرّصاص، كان الموت في كلّ مرّة أقرب إلينا من حبل الوريد، لم نكن نطلب جاهاً ولا مالاً، سوى أن ينعم الوطن، لأجل الأرض، لأجل أن تنعم عائلاتنا بالأمان، ثمّ ماذا بعد كل هذا الشّقاء؟

طالبنا بتسريحنا مراراً، لم يبقَ من دفعتنا إلا عدد قليل أغلبهم اليوم شهداء.

نحن القلّة القليلة، كنّا نعتقد أنّنا خرجنا إلى النّور، وتبيّن لنا لاحقاً أننا جُلبنا إلى الظُلمات!

وهذا مصير من سيبقى ممّا تسمّينهم أبطالاً يطالبون بتسريحهم ليل نهار. نحن السّابقون وهم اللّاحقون. هذا الوطن ليس لنا هذا الوطن لأصحاب السّلطة والمال لأصحاب الفساد!

لم يقدّم لنا هذا الوطن الّذي سمّانا أبطالاً أدنى ما يستحقّه الأبطال!

كنّا نشتم هؤلاء المتذمّرين أثناء خدمتنا أن زوروا مواقعنا ثمّ أسمعونا هذا الصّراخ!

اليوم نتفّهم جيداً ما كان يحصل خارج إطار الجبهات، ظروفنا ضمن القتال صّعبة وكل ما تعرّضنا له فيها من الويلات والتقصير كان الصّبر أنّ الحرب للرّجال.

يا ليتنا كنّا شهداء!

غصّة الشّابين بعد عودتهما سالمين_ جسدياً_ إلى الحياة المدنية ترويها تنهيدات القهر في الزّفير وصعوبة مخارج الحروف في الشّهيق، تابع أحدهما: تلك السّنوات التي ربما كنت قادراً فيها على أن أحقّق شيئاً علماً أو عملاً أو عائلة صغيرة ضاعت في الحرب. الآن خرجت إلى الصّفر تغيّر كلّ شيءٍ حتّى النّاس، تعويضٌ لا يُذكر في هذا الغلاء الفاحش وأي عملٍ وإن وُجد لا يكفيني لأبتلع الطّعام، لم يعد يعنيني أنّني مقاتلٌ فقط ولم أحصل على شيء يعينني على مشقّات الحياة وإنّما كمواطنٍ عاديٍّ ما كلّ هذا الظلم المنتشر في كل مكان!؟

حتّى أنّ سفرنا يتعرّض للمنغصّات والخيبات، ولا داعي لذكر الأسباب المعروفة سلفاً، لكنّ هذا حُلمنا الأخير في هذه الحياة.

 

حكومة أزمة أم أزمة حكومة!

الإدارة الفاشلة واستشراء الفساد سيؤديان حتماً ليس فقط إلى هجرة هؤلاء الشّباب، وإنّما إلى غليانٍ في نفوس المستضعفين الفقراء لا تُحمد عقباه، أن تجد في بلدك طابقين أحدهما سويسرا والآخر صومال!

محاضرات الإصلاح ومكافحة الفساد الّتي تكلّف أحياناً ما يساعد عدّة عائلات للعيش الكريم تبقى حبراً على ورقٍ في أدراج الرّياح وكلاماً في العسل، ليبرّر خيانة اللّيل حتّى الصّباح.

الفجر الموعود لهذا الوطن وإعادة الإعمار، هل ستتعلّم من الأخطاء السابقة وتُدار موارد البلد ومقدّراته وطاقاته على النّحو الأمثل والتوزيع العادل ورفع مستوى معيشة المواطن الّذي خرج من الحرب مسلوباً كل قواه؟

والأهمّ هؤلاء الشّباب الّذين ضحّوا بأبهى سني حياتهم تحت الشّمس الحارقة وبرد الشّتاء، ليبقى هذا الوطن عصيّاً على الإرهاب وسالماً يتنعّم أيضاً به أصحاب الخطابات والوعود والأغنياء وحتّى أرباب الفساد، ألا يستحقّون كلمة شرفٍ صادقةٍ بتحسين حياتهم ورفدهم بأدنى متطلبات العيش ليس فقط تكريماً لتضحياتهم وإنّما لا سمح الله في حروبٍ قادمة بما أننا ضمن مناطق النّزاع الدّائم سيحتاج هذا الوطن أبناءهم للذّود والدّفاع عنه، لنترك في ذاكرتهم شيئاً من الوفاء كحال أبناء الشّهداء والجرحى الغارق معظمهم في الهلاك.

 

أجل يا سادة!

أنتم الأبطالُ والقادةُ وأنتم الأملُ وأنتم حماةُ وبناةُ الوطن، وأنتم أساسُ إعادة الإعمار، وأنتم الأعلّونَ مهما سقط الحقّ يرتفع وستبقى جباهكم مهما ظُلمتم مُكلّلة بالعزّ والغار.

درب الجلجلة طويلٌ، لابدّ من قيامة وأنتم صنّاع النّهوض كما النّصر. لم يهزمكم العدوّ المدجّج بأحدث أنواع الأسلحة والحقد هل ستتركون ما حاربتم من أجله ليهزمكم طاغوت الفساد؟

ستبقون في هذا الوطن الذي أعلم جيداً كيف ترونه في عيونكم، وأنكم تحزمون حقائب الغضب فقط، وستعودون بعد ساعة صفاء عند مسير في أزقته تعانقون مجدّداً ترابه تستنشقون هواءه كالصّلاة وماءه كإكسير البقاء، ستكونون يد الإعمار وقضاة الفساد، ستعيدون لهذا البلد وعود دماء الشّهداء ليرتقي بكم كما تستحقّون ويستحقّ هذا الشّعب الصّامد على كل الأصعدة، الّذي علّق منذ البداية بكم الآمال، لا تخذلوه كما خُذلتم! اجمعوا الخيبات لتكون وقود الإصلاح والإعمار!

ننتظر منكم أنتم جيل الشّباب أن تبنوا لنا وطناً يتّسع لأحلامنا وأحلامكم، كما طهّرتم بأقدامكم الجبهات أن تقدّس أيديكم ما دمّرته الحرب وتعيدوا لنا أسباب البقاء.

لن تغادروه، إنه يسكنُكم كتعويذةٍ أبديةٍ لا يفارق الجسد الحيّ الأحشاء،

هيا بنا إلى بناء الوطن يا فرسان!

المجدُ للشّهداء، حماةَ الدّيارِ عليكُم سَلام.

 

العدد 1105 - 01/5/2024