إلى مطـلقي الـرصـاصـة الأولى

موسى الخطيب :

كان التحرير هدف أول رصاصة أطلقتها فتح تحت كوفية الراحل أبو عمار، ولبى الشعب الفلسطينية نداء أزيز الرصاصات الأولى، وقدم قوافل الشهداء من خيرة شبابه المتطلع إلى انبلاج نور العودة، ولم يبخل بالعطاء، ومعركة الكرامة كانت الربيع الفلسطيني الذي أزهرت فيه شقائق النعمان، لكن الانعطافة الكبرى في مجرى الصراع كانت قد حفرتها اتفاقيات كامب ديفيد التي شرعت للمرة الأولى كيان الاحتلال ورسمت خريطة جديدة للصراع تقلصت فيها أهداف العرب انكمش أفقها نحو حدود عام 1967 كآخر مرمى لأحلام التحرير التي أشعلت في رؤوسنا في زمن الصحوة القومية التي آلت خضرتها إلى يباس. كل ذلك لم يمكن ذا معنى حاسم لو لم تنخرط (م.ت.ف) في تداعيات كامب ديفيد، وتطلق خطاها في مجرى المنعطف الذي سلكته وتسقط في فخ الاعتراف الصريح بالكيان الصهيوني المحتل مقابل الاعتراف بها ككيان سياسي صالح للتفاوض حول مجاهيل المصير الفلسطيني بعد إلقاء السلاح والتدرب على التعايش مع تفاوض بلا هدف يبدأ من الصفر وينتهي إليه فلسطينياً ويبدأ من شرعية الاحتلال الثابت للجغرافيا الفلسطينية بحدود عام 1948 وينتهي بأمر واقع يقفز فيه الاستيطان إلى كل الجغرافيا الفلسطينية الباقية خلف حدود عام 1967. في ليلة القبض على خيار السلام يبدأ سقوط الأقنعة كي تظهر الوجوه عارية والأسماء عارية والصفقات فوق الطاولة لا تحتها وتحلل الخيارات البائسة التي آلت إلى جثث نشهد موتها في وضح النهار خيارات بناء الثقة بين الذئب والحمل والتصالح بين القاتل والمقتول، ورفع الرايات البيضاء بعد أن تقاعدنا عن القتال قبل أوانه، فعلى أي مذبحة سوف تفاوض بعد اليوم؟ وعلى أي مصير سوف نساوم مع العدو الذي ألهانا كل هذا الوقت؟

إذن نحو مجلس الأمن كي نتسول حلاً تحت سيف الفيتو الأمريكي الذي لا يرتفع إلا فوق أعناقنا التي تنوء بخطايا أكثر من ستين عاماً من الخيارات الخرقاء التي أوصلتنا إلى الوقت الذي نبيع فيه أقدس قضايانا بأبخس الأثمان. لم تسعف الأقدار ذلك الرتل الأول من النخبة النضالية الفلسطينية الذي افتتح فصل العودة إلى التراب الفلسطيني في غزة، وبعض مدن الضفة الغربية في موكب مازال مشهده في الذاكرة حين انحنى الراحل أبو عمار وسجد ليقبل تراب غزة ومن يمينه ويساره ومن خلفه كوكبة من المناضلين منذ أن كانوا بيننا في دمشق يتدربون على استقامة خطاهم المرشحة للطريق الذي يوصل إلى فلسطين. ربما لم يسعفهم ذلك الخيار المرتجل الذي وقعوا على وثائقه في أوسلو رغم أنهم ذهبوا إليه بأقدامهم في حقبة تاريخية كانت تبدو الأكثر ظلاماً في تاريخ فلسطين الحديث، وهي الحقبة التي شهدت ميلاد اتفاقيات كامب ديفيد. راهنت قيادة م.ت.ف يومذاك على أول خيط تفاوضي لوحت به الإدارة الأمريكية لصاحب الكوفية الفلسطينية، فتشبث به ومضى ينسج قصة الاعتراف المتبادل بين المحتل وضحايا الاحتلال، حتى ولو كان الثمن قبضة من رمال بحر غزة والمهر المقدم من رمي السلاح ثم التفاوض على حجر رحى مازال يدور برجال أوسلو حتى اليوم. اليوم ينكشف المستور وتخرج الوثائق إلى العلن حيث يسيل فيها حبر أوسلو القديم على أوراق فلسطينية صفراء لم تعد تحمل من ثوابت الحلم الفلسطيني سوى هوية التوقيع ولم تعد تحمل من الذاكرة الفلسطينية سوى طريق ضيق يوصل إلى رام الله عبر عشرات الحواجز للاحتلال بدولة لا تملك من مقدمات الدولة سوى الشرطة والعلم والرئيس. إنه زمن فلسطيني موجع ومشهد موجع وحقائق موجهة رمتها وثائق الفضائيات في وجوهنا والأشد وجعاً من كان ذات يوم بيننا في دمشق يتدرب على خطوات العودة. يخرج اليوم ليغسل جرحه القديم بالمداد الذي كتبت فيه تلك الوثائق باعتبارها دليل الفلسطيني التائه إلى دولته الموعودة حتى ولو ضاعت القدس من خريطتها وشرعت حرمان خمسة ملايين لاجئ من تراب فلسطين. لقد شرعت سياسة السلطة في رام الله المزيد من التهافت في موقف عدد من الدول العربية بدعوى مواجهة مخاطر التمدد للنفوذ الإيراني تسير على طريق تلبية شروط الاقتراب من الصهاينة من بوابة التطبيع والتعاون الأمني وتطوير العلاقات الاقتصادية معها على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني والمصلحة القومية الجامعة.

ومع دخول إدارة ترامب البيت الأبيض، شهدت سياسة الولايات المتحدة تحولاً هائلاً بطرحها مشروعاً لإعادة صياغة الحالة السياسية في المنطقة ودولها، بما يعزز المصالح والأهداف الأمريكية ويؤدي بالتالي إلى مزيد من الإفراج عن إسرائيل وانفتاح علاقاتها وترسيمها مع دول المنطقة والتقدم بخطوات متسارعة نحو تصفية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في إطار ما يسمى (صفقة القرن). نحن لا نرى مبرراً واحداً لوجوب التشبث بالمفاوضات الثنائية خياراً وحيداً في إطار بقايا أوسلو وتحت سقفه.. ولا نرى مبرراً آخراً إسقاط الحسابات السياسية للخيارات المتاحة في تغليب المصالح الفئوية والطبقية التي راكمتها على مدى سنوات ممارسة السلطة على حساب المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق من المفيد التذكير أن المرجعية الوطنية ليست مطوبة على مدى الزمن لمن يحمل الكوشان بل على من يفعل في الميدان.

خلاصة القول لتوصيف الحالة السياسية الفلسطينية الرسمية إزاء الصهاينة والعلاقات الداخلية أنها تعاني من قصور في التفكير ومن عجز وتخاذل في التدبير ومن ضعف في الإرادة السياسية ما يبقيها أسيرة قيود أوسلو وبرنامجه مع الإبقاء على قيود مصالحها الفئوية العليا من البيروقراطية الفلسطينية المندمجة بالكومبرادور التي تدير شؤون السلطة وتصادر زمام القرار السياسي على رأي المؤسسة. إن هذه الحالة توفر شروط تطويع الموقف الفلسطيني الرسمي للعودة إلى طاولة المفاوضات بسقف سياسي منخفض، وخاصة إذا ما واصل مركز القرار الرسمي في إدارة الظهر للتفاهمات الوطنية ودخل من جديد في متاهة مفاوضات الإطار الإقليمي.

العدد 1104 - 24/4/2024