الأمـن الغـذائي وضرورات التحول الزراعي في البلاد العربية

يونس صالح:

من المؤكد أن مستوى الاكتفاء الذاتي الغذائي في البلدان العربية حالياً هو أقل مما هو عليه في أي من مناطق العالم الرئيسية الأخرى، ولذلك فإن التنمية الزراعية في هذه البلدان، تحتاج إلى تحول في اتجاهات السياسة الزراعية لم يكن أكثر إلحاحاً مما هو عليه الآن، وبغير زيادة إنتاجية الزراعة زيادةً كبيرة ومستمرة فيها، فإن استغلالها في المستقبل سيكون أمراً مستحيلاً، وليس الأمر متعلقاً بزيادة الإنتاج الزراعي فحسب، بل ولابد من زيادة إنتاجية الأرض، وهو ما يتطلب تطويراً في وسائل الإنتاج وفي العلاقات الاجتماعية.

وينبغي أن يكون واضحاً أن تحولاً زراعياً جديداً لا يمكن أن يقتصر على مجرد تطوير أساليب جديدة للإنتاج، وإنما هو، فوق ذلك وقبل ذلك، عملية متكاملة تتطلب في الوقت نفسه تعديلاً في العلاقات الاجتماعية والسياسات الاقتصادية، إن التحول الزراعي ليس مجرد عملية فنية بإحلال أساليب جديدة محل أساليب قديمة، ولكنه يتضمن في الوقت نفسه أسلوباً جديداً للحياة. إن التحول الزراعي يتضمن تعديلات كاملة في العلاقات وفي السياسات، وليس مجرد تغيير في أساليب الإنتاج الفنية، كذلك فإن التحول الزرعي المطلوب يتطلب في الدرجة الأولى سياسات تنموية جادة وجديدة في البلدان العربية.

إلا أنه يقتضي في الوقت نفسه تغييراً في نمط العلاقات الدولية.

فالتحول الزراعي المطلوب يقتضي أن تعيد هذه البلدان النظر في سلم أولوياتها بمزيد من الاهتمام بإشباع الحاجات الأساسية، والاعتماد الذاتي والتركيز على تطوير الزراعة، ومزيد من الاهتمام بعلاقات الإنتاج وتوزيع الثروة، وإدخال أساليب الإنتاج الحديثة والاهتمام بالبحوث والإرشاد الزراعي، إلا أن كل ذلك لا ينفي أنها تبدأ من ظروف غير مناسبة، ذلك أن الدول العربية لا تزال ضعيفة كلاً على حدة، وأغلبها في ظروف تابعة، ومن ثم فإن تطوير علاقات أكثر تضامناً فيما بينها ووضع إطار لاستقرار أسعار الحاصلات الزراعية، ونقل التكنولوجيا وزيادة موارد التمويل يعتبر أمراً لازماً لتحقيق مثل هذا التحول الزراعي المطلوب.

وهكذا، فإن قضية التنمية الزراعية، ورغم أنها تتطلب في الأساس ما يوضح إلى أي حد تمثل هذه القضية تحدياً أساسياً للبلدان العربية، وللدول النامية على وجه الخصوص، لأننا إذا نظرنا إلى الواقع في البلدان العربية، فسنجد أن مشكلة الزراعة والغذاء تبدو أكثر اختلالاً وخطورة.

وبما أن الأرقام دائماً أكثر بلاغة من الكلمات في التغيير، نورد هنا بعضاً منها، في محاولة لإعطاء صورة كمية لأوضاع الزراعة والغذاء الحالية.

لقد حقق الإنتاج الزراعي في البلدان العربية ككل منذ أول السبعينيات من القرن الماضي حتى أوائل القرن الحادي والعشرين متوسط نمو سنوي بحدود 2%، وفي المقابل حقق الطلب على هذه المنتجات متوسط نمو بحدود 5,5%. إن سبب هذا الفارق الكبير بينهما هو النمو في كلفة واردات السلع الزراعية بمتوسط تجاوز 20% سنوياً، بسبب الزيادة في كل من المقادير المستوردة والأسعار، وبالمقارنة نمت حصيلة الصادرات الزراعية العربية بمستويات منخفضة للغاية نسبياً بلغت 6% خلال الفترة نفسها التي أُشير إليها، وتدنت إلى أقل من 2% سنوياً خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

في أواخر القرن الماضي كان عدد من البلدان العربية يتمتع بميزان موجب، منها سورية والمغرب ومصر والسودان وموريتانيا، وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين اختل هذا الميزان في صالح الواردات.

في غمرة هذه التطورات أصبحت الواردات الزراعية أعباء مالية باهظة على عدد كبيرة من البلدان العربية، حتى أنها أصبحت في بعض البلدان، كمصر على سبيل المثال، تستنزف كل حصيلة مصر من صادراتها السلعية الزراعية، وغير الزراعية. ومما تجدر الإشارة إليه أن مستوى الاكتفاء الذاتي الغذائي في البلدان العربية لا يتجاوز 55% من إجمالي الطلب، أي أنه يجري الآن استيراد 45% من إجمالي الغذاء الذي يجري استهلاكه، وفي منطقة بلدان مجلس التعاون الخليجي، مثلت وارداتها الزراعية حوالي 80% من إجمالي الاستهلاك، وبالمقابل لا يتجاوز متوسط الواردات الزراعية في بلدان العالم النامي ككل 10% من إجمالي الطلب عليه. إن هذه الأرقام واضحة الدلالة على الأوضاع الزراعية والغذائية المتفاقمة في البلدان العربية مقارنة بمناطق العالم الأخرى.

لا يسمح المجال في هذه المقالة للتطرق بالتفاصيل إلى الأسباب الكثيرة والمعقدة التي تكمن وراء هذه الأوضاع المقلقة، ولذلك سأكتفي بإشارة سريعة إلى أهمّها، كما أعتقد.

* إن التنمية الزراعية تعتبر شديدة البطء، بالمقارنة مع قطاعات الاقتصاد الأخرى الإنتاجية والخدمية، إذ إنها تتطلب سلسلة من المدخلات، منها استنباط وتطوير تكنولوجيا زراعية محلسة تتلاءم مع البيئة السائدة، الطبيعية منها والاقتصادية. تتطلب هذه الخصوصية قدرات علمية وتنظيمية عالية تفتقدها معظم البلدان العربية، كما أن الزراعة كذلك هي أكثر القطاعات الاقتصادية حاجة إلى البنيات التحية الارتكازية، وتتطلب هذه البنيات سلسلة طويلة من الأعمال، منها شبكات الري، والصرف، وخزانات المياه، وتوفير البنيات الأساسية للمجتمعات الريفية، ووسائل النقل والتخزين، والصناعات الزراعية… الخ، وهي مستلزمات باهظة التكاليف بطيئة التنفيذ.

* ومن أهم معوقات التنمية الزراعية العنصر الاجتماعي، إذ إن تطبيق التكنولوجيا المتطورة الحديثة، وهي المرتكز الأساسي لها، يتطلب بالضرورة مستويات عالية من المعرفة والإدراك والحوافز لدى المنتج الزراعي نفسه، وهي عملية تنمية بطيئة لابد أن تخضع لقانون التطور التدريجي، إلا أنه وبالرغم من هذه المعوقات الهامة للتنمية الزراعية ولتحقيق التوازن بين نمو العرض ونمو الطلب، يوجد الإشكال الرئيس في العالم العربي بالذات، وهو يتمثل في طبيعة توزيع موارد التنمية الزراعية، والمالية والطبيعية، غير المتكافئ بين بلدانه المختلفة، ويكفي لإيضاح هذه الحقيقة الجوهرية النظر إلى المؤشرات التالية:

* 1- يوجد أكثر من 75% من الرقعة الزراعية العربية ومياه الري وسكان الأرياف في البلدان الثلاثة عشر ذات الدخل المنخفض والمتوسط (1)، فيما يمثل إجمالي الناتج المحلي لهذه البلدان 24% فقط من الناتج المحلي العربي.

* 2- وفي البلدان الخمسة منها ذات الدخل المنخفض يوجد 25% من الموارد الزراعية المستقلة، ونسبة أعلى من ذلك لإمكانيات الإنتاج الزراعية المستقبلية، بينما لا يتجاوز إجمالي ناتجها المحلي نسبة 4% فقط من الإجمالي العربي، وتبلغ حصة الفرد من هذا الناتج حوالي 500 دولار.

* 3- وفي البلدان الخمسة منها ذات الدخل المنخفض يوجد 25% من الموارد الزراعية المستغلة ونسبة أعلى من ذلك لإمكانيات الإنتاج الزراعية المستقبلية، بينما لا يتجاوز إجمالي ناتجها المحلي نسبة 4% فقط من الإجمالي العربي، وتبلغ حصة الفرد من هذا الناتج حوالي 500 دولار.

* في المقابل يوجد ربع الموارد الزراعية العربية في البلدان العربية الباقية (2) وهي البلدان النفطية الرئيسية، إلا أنها تمتلك 75% من إجمالي الناتج المحلي العربي، وفي هذه البلدان حصة الفرد من هذا الناتج يصل إلى 6500 دولار.

وإذا استثنينا العراق والجزائر من هذه المجموعة، لأنها ذات موارد زراعية جيدة يمكنها أن تستوعب نسبة عالية من مدخراتها، نجد أن البلدان الخمسة الباقية تمتلك 6% فقط من الموارد الزراعية العربية و60% من إجمالي الناتج المحلي العربي.

في اعتقادي، إن هذه الحقائق الأساسية التي تتسم بها أوضاع الزراعة والغذاء في البلدان العربية تكفي للوصول إلى الاقتناع بأن الأمن الغذائي العربي سيبقى أملاً بعيد التحقق، إن لم تستطع البلدان العربية أن تحقق مستويات من التفاعل والتكامل بين الموارد الزراعية والمالية يتجاوز بكثير ما أمكن تحقيقه حتى الآن.

وببساطة تامة يجب الإقرار بأن الأموال وحدها لا يمكن أن تحول إلى غذاء، كما أن الموارد الزراعية المعطلة وحدها دون مال لا يمكنها كذلك أن تتحول إلى غذاء.

 

(1) ذات الدخل المنخفض، موريتانيا، الصومال، السودان، جيبوتي، اليمن.

وذات الدخل المتوسط: سورية، البحرين، عمان، الأردن، لبنان، مصر، تونس، المغرب، ليبيا.

(2) السعودية، الكويت، الإمارات العربية، قطر، العراق، الجزائر.

العدد 1104 - 24/4/2024