محنة النون المستمرة

حسين خليفة:

تُعرِّف الجمعية العامة للأمم المتحدة العنف ضدّ النساء بأنه (أيّ اعتداء ضدّ المرأة مبني على أساس الجنس، ويتسبب بإحداث إيذاء أو ألم جسدي، جنسي أو نفسي للمرأة، ويشمل أيضاً التهديد بهذا الاعتداء أو الضغط أو الحرمان التعسفي للحريات، سواء حدث في إطار الحياة العامة أو الخاصة).

وأنا العبد لله، والخائف من أي زلّة لسان قد تجعلني أندم كل العمر، أقول: إن العنف ضدّ النساء هو إطلاق العنان للوحش المُخبّأ فينا، في كل واحد منّا، وفكّ لجامه، ليُعبّر عن حقيقتنا نحن الرجال، فحين نعدم الوسيلة في جعل امرأة تخصّنا، زوجة أو أختاً أو أماً أو حتى صديقة أو حبيبة، نلجأ إلى الوسيلة الأنجع: العنف، فنُخرج الأنا الحقيقية من مخبئها، ونبدأ بممارسة ما فعله أجدادنا الأوائل حين (ثاروا) على المجتمع الأمومي وأعادوا المرأة إلى بيت الطاعة، لتجالس الأطفال بعد أن تحمل بهم وتنجبهم، وتطبخ وتغسل وتشطف وتحمل أعباء البيت، ثم جاء (تحرير المرأة) ليُضيف إلى أحمالها كلّها حمل العمل أسوة بالرجل، وبات عليها أن تنافسه هي المرهقة بأعباء المنزل بينما الرجل متفرّغ للعمل فحسب، إلاّ في حالات نادرة وفردية هي استثناءات تؤكد القاعدة.

أقول قولي هذا ولا أستثني نفسي الأمّارة بالسوء من هذا الحكم العادل، وأخص أيضاً جمهور المثقفين والمفكرين والفنانين والنخب الأخرى، إذ إنهم سرعان ما يعودون إلى حظائر العقل الأولى حالما تعترضهم امرأة تخصّهم باختلاف أو خلاف.

أعرف كاتباً كبيراً يسارياً جداً، ومتحرراً جداً، وبطلات رواياته نساء مثاليات في تحررهن من كل التابوات والحواجز الاجتماعية، لكنه كان يضرب زوجته ضرباً مبرحاً مراراً حتى انفصلا، وبقي اسمه يعلو، فيما لاذت الزوجة بصمتها حفاظاً على مكانة الكاتب الكبير.

وأعرف فناناً مبدعاً كان يعامل النساء من صديقاته وحبيباته بمنتهى الرقي والرقة، (جنتلمان) حقيقي، لكنه ما إن صار في منزل واحد مع زوجة انبهرت بأفكاره وإبداعاته، حتى خرج الرجل الحقيقي من داخله، وحوّل حياة الزوجة إلى جحيم عبر عنف نفسي وجسدي أيضاً، وكانت تسجن نفسها مراراً في المنزل، فلا تزور ولا تُزار، حتى تزول آثار (إبداعات) الفنان، والناشط السياسي والثقافي والاجتماعي، على جسدها ووجهها.

يشمل العنف الاغتصاب والعنف العائلي والتحرّش الجنسي والإكراه الإنجابي ووأد الإناث واختيار جنس ما قبل الولادة والعنف التوليدي، فضلاً عن المُمارسات التي تُبنى على أعراف وتقاليد ضارّة مثل القتل بدافع الشرف، وعنف المهر، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث(الختان)، وزواج القاصرات، والزواج عن طريق الاختطاف، والزواج القسري.

وبعض أشكال العنف تُرتكب أو تتغاضى عنها الدول مثل اغتصاب الحرب، والعنف الجنسي والاسترقاق الجنسي أثناء النزاع، التعقيم القسري، الإجهاض القسري، العنف الذي تمارسه الشرطة والموظفون المعتمدون، الرجم والجَلد… وغيرها. وكثيراً ما تَرتكب شبكات إجرامية منظمة العديد من أشكال العنف ضدّ المرأة، مثل الاتجار بالنساء والبغاء القسري.

وحقيقة، إن العنف الجسدي على بشاعته وقبحه وإجرامه أيضاً، هو أقلُّ إيلاماً من العنف النفسي الذي يُمارس على النساء، كلّ النساء، باستمرار، وبوتيرة لا تهدأ، وهو عنف خفيّ وموجع، يمتد إلى موضوع التفاوت التاريخي المُكرّس بين الجنسين، واضطرار المرأة إلى إخفاء ألمها ومشاعرها، نازفةً وقتاً وجهداً من أجل تجميل نفسها كي تُرضي الرجل، ويصل الأمر بكثير من النساء إلى كره بنات جنسها من باب ما يشبه (عداوة الكار).

في هذه الحرب تعرّضنا نحن السوريين رجالاً ونساء إلى عنف قلّ نظيره، لكن الضحية الأكبر والأسهل كانت المرأة السورية، التي عانت الحصار والجوع والحرمان وفقدان فلذات الأكباد والزوج والأخ والأب، والاعتقال والخطف والخوف من أي مصادفة عابرة، وكان عليها أن تحمل أعباءها الأصلية وأعباء الرجل الذي مضى إلى الحرب أو مات أو فُقِد، في ظروف ساد فيها الفقر والتشرّد والندرة، ومهما قيل في حقها وعن دورها خلال سنوات الحرب، يبقى الأمر بحاجة إلى دراسات وتوثيق، فمئات آلاف الحالات لنساء سوريات اجترحن المستحيل لمقاومة الموت ودفعه عن عائلاتهن بطرق شتى.

إنها البطل الحقيقي أو البطل الإيجابي الوحيد في هذه الحرب العمياء.

husenkhalife@hotmail.com

العدد 1105 - 01/5/2024