الموازنات.. والصرفيات

في كل عام، ومع الاقتراب مع نهايته، يستنفر التجار، ويتساءل المرء عن سبب ذلك، وينكشف الأمر، ففي كل عام وفي الوقت نفسه تنشط عمليات الإصلاح والدهان والديكور والشراء في الدوائر الحكومية نشاطاً كبيراً، ويشكل هذا الأمر فرصة ذهبية للتجار ينتظرونها في كل عام ويرون فيها موسماً لاقتناص الأرباح منها، إذ يزداد الطلب الحكومي على إبرام العقود بمختلف أنواعها (التحديث، والشراء، والتطوير والاستبدال) لأسباب عديدة جميعها تتمحور حول أمر واحد يتعلق بالبيروقراطية والأنظمة المالية المتحجرة، التي تفتح باب (مغارة علي بابا) للمحاسبين والمسؤولين الفاسدين، الذين ينالون حصة كبيرة من هذه العقود، من دون أية مساءلة أو محاسبة، وكل ذلك يكون على حساب الجودة والكفاءة.

إن سورية تعاني من نظام مالي قديم، وبيروقراطية كبيرة، تحول دون تطوير هذا النظام من ناحية، وتفتح الباب أمام فساد لا يمكن ضبطه بسهولة.

بل تشجع عليه في كثير من الأحيان، الأمر الذي ينتج عنه مشاريع صورية، أو هدر كبير في المجال العام بشكل سنوي ودوري، من دون إيجاد حل حقيقي لهذا الأمر.

أحد أبواب الفساد المقونن في القطاع الحكومي يتعلق بطبيعة الأنظمة المالية، التي تحدد ميزانية كل مؤسسة مقارنة بالعام الماضي، إذ يجري بشكل سنوي تخصيص الميزانية ذاتها تقريباً لكل مؤسسة بناء على ما تحقق صرفه في العام المنصرم، إن لدى كل مؤسسة مبلغ مخصص كل عام لمصاريفها، تقوم بصرفه، والإ فإن المبلغ الذي يُوفَّر يدوَّر إلى العام التالي، مع تخفيض الميزانية بمقدار ما صُرف، على اعتبار أن المؤسسة لم تحتج إلى المبلغ المخصص في العام السابق، ولكي تضمن المؤسسة ثبات موازنتها، عليها ان تنفق المبلغ المخصص! وفي حال لم ينفَق هذا المبلغ، ومع اقتراب نهاية العام واقتراب موعد إغلاق الميزانية، يجري هدر المبالغ الفائضة وصرفها بأي شكل من الأشكال: مواد عن طريق عمليات التطوير الوهمية والتحديث، أو شراء أثاث جديد لا داعي له، أو إقامة مشاريع بمبالغ كبيرة أكثر من حقيقة المشروع ذاته.

إن مثل ذلك الفساد لا يمكن ضبطه وفق القوانين الحالية بالطبع، فجميع المشاريع وعمليات الشراء تنفَّذ وفق عقود نظامية، وإيصالات نظامية أيضاً، تفضي عملية التحقيق فيها إلى أنها صحيحة، ويجري ذلك عن طريق الاتفاقات المسبقة بين التاجر والمقاول ومسؤولي المؤسسة، الأمر الذي يدر ربحاً على التاجر أو المقاول من جهة، ويملأ جيوب المسؤولين من جهة أخرى، إضافة إلى أنه يتضمن استقرار الميزانية.

إن غياب برنامج للصرف الزمني الواضح في كل مؤسسة، يؤدي في النهاية إلى تراكم المبلغ الذي لابد من صرفه، ضمن هذه البيئة، وفي ظل ضعف عقود لا يهمها وجود التنفيذ وكفاءة الإنفاق، وإنما الهدف صرف الكتلة النقدية المتبقية بغض النظر عن العائد الاقتصادي أو الاجتماعي.

إن كل ذلك يتطلب مراجعة شاملة ودقيقة للأنظمة واللوائح المالية المطبقة.

وإلى أن يتحقق ذلك، يبقى المال العام مفتوحاً أمام هدر مقونن، وفساد لا يمكن ضبطه، يضاف إلى ذلك مشاريع لا يمكن في كثير من الأحيان أن نسميها (مشاريع)، الأمر الذي قد يشرح جزءاً لا بأس به من أسباب سوء الكثير منها وفشلها.

إن صرف ما في خزانة المؤسسات يضمن امتلاؤها من جديد، أياً كان شكل هذا الصرف ونتيجته.

العدد 1104 - 24/4/2024