… عن الإصلاح الإداري

د. سلمان صبيحة:

 بعد أن مرّ أكثر من عام على طرح المشروع الوطني للإصلاح الإداري، أضع هنا بعض الملاحظات والآراء في ضوء الدليل التعريفي للمشروع الوطني للإصلاح الإداري.

بداية أقول عندما أصدر السيد الرئيس بشار الأسد المرسوم رقم 281 للعام 2014 حول تحديد مهام وزارة التنمية الإدارية وأهدافها، اعتبرت في ذلك الوقت أن هذا المرسوم سيصبّ حتماً في الإصلاح الإداري. وكتبت وقتذاك: (لا ندري كيف ستتعامل وزارة التنمية الإدارية مع بعض العقليات والذهنيات المتخلفة التي تعشّش في مفاصل قطاعنا العام وشركاته ومؤسساته، والتي فصلت القوانين والأنظمة على مزاجها، فبالرغم من التطور الكبير الذي حصل في كل مناحي حياتنا اليومية وثورة التقانة والمعلومات والإعلام التي نعيشها، فنحن شئنا أم أبينا في خضم هذا التطور والتحول السريع والهائل الذي يجري يومياً على مستوى العالم والمنطقة.

 تصادفك في دهاليز العمل العام هذه العقليات والذهنيات الغريبة والعجيبة المستندة إلى بعض الأنظمة والقوانين التي تكبل العمل وتمنع المبادرة وتدعم نظريات الموظفين العصمليين الذين مازال كثير منهم قابعاً في المفاصل القيادية لمؤسسات القطاع العام ووزارات الدولة.

ومنها: (ما دخلنا!

– لا.. لا تقترح.. دير بالك!

– لا.. لا توقّع!

– اربط الكرّ محلّ البقلّك صاحبه!).

والكثير الكثير من هذه الأقاويل والنظريات العفنة التي تخنق أي روح للمبادرة وللتطوير والتحديث، وتجعل دم الفساد والمفسدين يسري في شرايين مؤسساتنا ودوائرنا الوطنية، التي صمدت وأثبتت وجودها وأهميتها ووطنيتها، رغم كل الحرب الضروس عليها لإفراغها من محتواها وضربها لضرب الدولة السورية).

للأسف الشديد لم تقم وزارة التنمية بالدور المطلوب منها بأن تكون نواة للإصلاح الإداري، فاقتصر دورها على الكلام وقص بعض التجارب لبلدان لا تشبهنا، ولصقها. فتحولت اللقاءات والحوارات التي كانت تقيمها الوزارة إلى ما يشبه حوار الطرشان. ومارست دور الأستاذ والمعلم على خيرة كوادرنا الإدارية المشهود لهم بالكفاءة والتجربة الإدارية الكبيرة عبر برنامج الجدارة القيادية في القيادة الإدارية، وتوج بطريقة مجحفة وصغيرة بحق تلك الكوادر والكفاءات والقامات الإدارية المشهود لهم، بإخضاعهم لامتحان كطلاب المرحلة الابتدائية، فلا نعرف من سيمتحن من؟ ومن هو الأفهم والأجدر في مجال الإدارة؟ نحن الآن لسنا بصدد تقيم وزارة التنمية الإدارية ولا بقياس أدائها وعملها، لكن هذا يعطينا فكرة عن طريقة إدارة هذا الملف الهام.

ما هكذا تكون الإدارة. ولا بهذه الطريقة نصنع الكوادر الإدارية الوطنية. أسلوب التلقين والحفظ لا يصنع قائداً ولا مديراً. وما هذا الدليل التعريفي الذي قدمته وزارة التنمية للمشروع الوطني الكبير للإصلاح الاداري إلا دليل على تخبط الوزارة وعدم قدرتها على مواكبة المتغيرات والتطورات الدولية والداخلية، ولا هو في مستوى الآمال.

لقد كانت مؤسسات وشركات القطاع العام بعمالها وموظفيها ومازالت الدرع الذي حمى الوطن، إلى جانب الجيش العربي السوري البطل، وستروى الروايات والأساطير عن بطولات عمالنا وموظفينا كل في مكانه، من عمال الكهرباء إلى عمال النفط إلى المعلمين في مدارسهم وجامعاتهم وعمال النسيج والمطاحن، والسكك الحديدية والمطارات والمرافئ، إلى عمال النظافة… الخ.

بعد سبع سنوات من هذه الحرب الملعونة على سورية والتي فشلت بفضل هؤلاء الأبطال العمال والفلاحين الصامدين المقاومين الصابرين وأبنائهم الأبطال الميامين في الجيش العربي السوري. يجب أن تتغير العقليات والذهنيات والنظرة بشكل عام إلى القطاع العام ليأخذ دوره الوطني الكبير المنوط به في دعم الاقتصاد السوري وفي مرحلة إعادة الإعمار. لذلك، أرى أنه يجب تطوير الأنظمة والقوانين، والاهتمام بالموظفين والعمال ونشر ثقافة أخلاقيات العمل والإخلاص له، وتوطيد العلاقة والثقة بين الموظف والمدير.

إن المشروع الوطني للإصلاح الإداري ليس مشروعاً خاصاً بوزارة التنمية الادارية، بل هو مشروع وطني للجميع. المهمة الكبيرة والأساسية تقع الآن على عاتق جميع الوزارات والجهات من أجل العمل على تغيير العقلية والذهنية وتطوير القوانين والأنظمة وإعطاء مرونة للإدارة والعاملين لتطوير منشآتهم بما يحقق زيادة في الإنتاج والإنتاجية ويحقق قيمة مضافة تنعكس في تحسين أجورهم ورفع مستوى حياتهم المعيشية، وأن توضع آلية تشجع كل مبادرة أو اقتراح لتطوير العمل وتحسينه، وأن يتم التوصل إلى صيغة أفضل لعمل الجهات الرقابية والوصائية على العمل والعمال مثل هيئة الرقابة الداخلية أو الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، التي وللأسف الشديد نجد أنها في كثير من الأحيان لا تمارس دورها الوقائي من أجل درء الاخطاء قبل وقوعها. يجب دعم المبادرين ومساعدتهم على إنجاح العمل، وتطبيق مقولة:

(من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد)، نأمل أن يطبق ذلك على الجهات العامة، وعندئذٍ سنرى هناك الكثير من الاقتراحات البناءة والتحف من الأفكار المدفونة في عقول أصحابها قد تظهر وترى النور.ألم يخطر في بال مسؤولينا سؤال بسيط جداً: لماذا بعض السوريون يبدعون في الخارج ويستفيد من أفكارهم واقتراحاتهم كثير من البلدان والشركات التي يعملون فيها؟! وكانوا في سورية مهمشين، منسيين، مبعدين، وإذا البعض منهم تجرأ أن يقترح أو يعمل تجد من يضع العراقيل في وجهه ويساهم في تطفيشه بشتى الأشكال والأساليب.

 كم من العقول هاجرت وخسرناها، انشغلنا في الاستثمار وجلب الاستثمارات وابتعدنا عن أهم استثمار على الإطلاق ألا وهو الاستثمار في الموارد البشرية.

 نأمل أخذ كل هذا بعين الاعتبار، ووضع أطر ونماذج حقيقية لإدارة الموارد البشرية وتحديث القوانين والإجراءات المتعلقة بها وعلى كل الصعد، بدءاً من التعيين وقوانين العمل في الإدارة ومعايير تقييم الأداء ونظم الحوافز والأمان للعاملين في الإدارة العامة وتنفيذ مهامها وأهدافها.

وللانتقال من الكلام الجميل النظري إلى الواقع العملي للتطوير الإداري قد يكون من المفيد إجراء ما يلي إضافة إلى ما ذكر أعلاه:

1- يجب التركيز على الأهداف والغايات.

2- دراسة الواقع الراهن لكل مؤسسة او شركة، تتضمن:- رؤية الدولة لهذا القطاع – ما هو توجه الدولة للمرحلة القادمة – أين نحن الآن من المتغيرات الخارجية؟ وربطه مع الواقع الداخلي.

3- بعد ذلك نركز على نظام إدارة الأداء، وعلى تخطيط الأداء. من هنا نأتي إلى مفهوم الهيكل التنظيمي لتنفيذ المهام. وهل هذا قادر على تلبية متطلبات تنفيذ المهام. وما هي أدواته؟ …الخ.

4- يجب علينا بناء القدرات، لا التدريب والتأهيل فقط، لأن من أهم معايير القياس هو الأهداف.

5- مراجعة الهياكل التنظيمية والأنظمة الداخلية. دراسة الموارد البشرية الموجودة وإجراء تحليل لواقع القوى العاملة والتوصيف الوظيفي وربطها مع الأداء وتقييم هذا الأداء. فنحن لا نعاني من نقص في الكوادر البشرية بل نحن نعاني من تمكين بشري.

6- العمل على مشروع إصلاحي متكامل تكون البداية فيه مباشرة من إصدار قانون جديد للعاملين وليس تعديله، يتحلى بالمرونة والوضوح يعطي لكل قطاع استقلاليته ويراعي طبيعة عمله ليكون قادراً على المنافسة والإبداع، يتحمل المسؤولية في حالتي الخسارة والربح، لينعكس ذلك على الرواتب والأجور.

7- وضع معايير اختيار القيادات العليا، بحيث تأخذ بعين الاعتبار المهارات الإنسانية والفكرية والتقنية، لنصل إلى مدير قائد وليس إلى مدير منقاد او مدير موظف يخشى اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. المدير القائد هو الذي يكون في المقدمة، له مهارات استثنائية ويجعل موظفيه يعملون كفريق متجانس ومنسجم، القائد الأنجح هو الذي يستطيع أن يجعل عمل المؤسسة بغيابه كما في حضوره.

8- أتمنى أن لا نتقيد ونطبق تجارب الآخرين عندنا كقالب جاهز، فنحن خلال السنوات الماضية تعلمنا الكثير، فهذه المرحلة التي نمر بها وهذه الحرب الملعونة التي نخوضها أعطتنا الكثير من الدروس والعبر وكشفت لنا معادن الرجال. فنحن يجب أن نعطي الدروس والتجارب للآخرين. يجب علينا إعادة التموضع والثقة بالقيادات الإدارية والكفاءات الوطنية التي صمدت وبقيت في الوطن وعملت في أصعب الظروف ولم تتخاذل ولم تترك الوطن وتهرب رغم المغريات ورغم التهديدات.

9- يجب أن لا نقبل أن يأتينا مسؤولون من الخارج تآمروا جهاراً نهاراً على سورية وكانوا سبب أزمتنا ليقودوا عمل المؤسسات والشركات والوزارات في المرحلة المقبلة تحت أي مسمى، وخاصة من كان قبل الحرب مسؤولاً في إحدى المؤسسات أو الشركات أو الوزارات وكان يخرب ويتاجر بقوت الناس ويمارس كل الموبقات والفساد وينهب الدولة والشعب معا، وهرب إلى الخارج لينضم إلى جوقة المتآمرين.

10- أقترح ضم وزارة التنمية الإدارية أو دمجها مع هيئة تخطيط الدولة ومع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، لتصبح كلها وزارة التخطيط والموارد البشرية والعمل.

11 – تفعيل مديريات التنمية الإدارية المركزية في الوزارات والجهات العامة ودمجها مع مديريات أخرى تشبهها في عملها مثل المديريات الإدارية والتدريب والتأهيل والمعلوماتية وغيرها.

العدد 1105 - 01/5/2024