بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل فقيد الأدب حنا مينة.. وقائع حفل تأبين !

د. عاطف البطرس:

(اسمعا! ذات يوم، سأبتاع على هذا الشاطئ قطعة أرض، سأختارها بعناية، بعيدة عن العمران، قريبة من البحر والغابات، ناعمة الرمل، ملساء الحصى، مفتوحة للرياح، مكشوفة للشمس والقمر والليل)!

على هذه القطعة من الأرض أقيم حفل تأبيني بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة فقيد الأدب العربي حنا مينه.

دعي من في صدره شوق للمغامرة، ومن يبتسم من قلبه ويغضب منه وينتزعه عند الحاجة، ويلقي به في النار. كما حضر الحفل التأبيني عدد كبير من الصيادين والمنبوذين الذين كسرت العواصف قواربهم، ومجموعة من المغنين والسقاة والذين ليس لديهم أكياس يجمعون فيها القشور والأصداف.

شيدت منصة بسيطة من الخشب أشبه ما تكون بمسرح صغير وأمامه صفوف من الكراسي القديمة المصنوعة من أخشاب الغابة. كان ثمة رجل يحاول تنظيم الجلوس، إنه خليل العامل ومعه شاب في مقتبل العمر (أحمد) الذي يتوقد حماساً.

بدأت الوفود المشاركة في الحفل بالقدوم: المختار، محمد الحلبي، أبو فارس، رندة، فارس، رحب بهم خليل وأجلسهم في الصف الثاني تاركاً الصف الأول للضيوف الذين ربما قدموا من دمشق.

وبعدها حضر الوفد الثاني: أبو محمد، كامل، أم حسن، وبجانبها رجل بثياب بحار قديم لا يخشى الغرق ولا يتراجع ولا يهاب، إنه الطروسي. وبعدهم تقدم وفد ثالث يضم شاباً وسيماً يضع خنجراً على جانبه الأيسر، ورجل يحمل دفاً لضبط الإيقاع ومعهم شابة على عيينها نظارات طبية، وامرأة فارعة القامة متباهية بنفسها تضيء ابتسامتها المكان.

ثم حضر كل من زكريا المرسنلي وشكيبة وعبعوب، وقد تغيب عن الحضور وفد دمشق ممثلاً بدميتريو وراجعة وربيع المياس، ولم يعرف سبب تغيبهم عن الاحتفال.

على المنصة وضعت صورة كبيرة للفقيد وبعض اللافتات وقد كتب على أحدها (أن تعيش للاشيء يعني أن تموت)، وأخرى (التجربة هي المحك)، وثالثة (ستكونون ملعونين من جميع الأمم لأجلي، الخروج على المألوف لو يفهم في وقته لما عدّ خروجاً، الذي لا يخرج صوته لا يجيد الغناء).

قاربت الساعة الخامسة مساء. وكان لابد من البدء بالاحتفال قبل حلول الظلام.

امتلأت الكراسي بالحضور، شخصيات كثيرة تحررت من ورقيتها وجاءت للمشاركة في تأبين خالقها، حشود كبيرة، رجال ونساء، تداخلت أصواتهم، ثم فجأة حلّ هدوء مطبق، بعد أن صعد عريف الحفل إلى المنصة وقال:

نبدأ حفلنا التأبيني بالنشيد الوطني للجمهورية العربية السورية، ثم نقف دقيقة صمت تخليداً لذكرى فقيدنا الكبير: فياض في الثلج يأتي من النافذة، كرم المجاهدي في الربيع والخريف، عناد الزكرتاوي في النجوم تحاكم القمر.. فقيدنا الكبير حنا مينه.. الكلمة الآن لشيخ البحارة الذي أنقذ مركب الرحموني، لم يخش الغرق، تغلب على العاصفة، عاش الغربة موزعاً بين البر والبحر، رفض أن يعود إلا ريساً، إنه الطروسي.

صعد إلى المنصة رجل في الأربعين من العمر بيده خيزرانة، نظر إلى الحضور وبصوت متهدج يفيض حناناً ورجولة قال: لن أطيل عليكم، كل ما أريد قوله: لا تصدقوا حنا الذي أبدعني، هو لم يتعلم مني، إذ كيف يتعلم خالق من مخلوقه؟ أنا لم أمد لساني ساخراً منه، هو الذي علمني قيم الرجولة، وحب الوطن بلا فلسفة، وهو الذي شجعني على العودة إلى البحر وزرع فيّ أخلاق الريس.. إنني أنحني أمام إنسانيته وقدرته على صناعة الأبطال، لن تغرب شمسك يا حنا، إننا منك وأنت منا.. ثم صمت وكأنه فقد القدرة على الكلام.

ثم قدم عريف الحفل زكريا المرسنلي قائلاً: هل تصدقون كيف يمكن أن تحول المرأة مجرماً وحشاً خشبة إلى أرق من عود النعناع؟ نعم هذا ما فعلته شكيبة بزكريا، الكلمة لك أيها العائد من عالمك الصغير إلى مدينتك التي حولتك إلى قاتل، وعندما هاجمها الحوت عدت إليها تاركاً منزلك وشكيبتك.

الفقيد الغالي حنا مينه: لماذا جعلتني أمثولة للناس، كيف تحولت شخصيتي بفضل عقلك وأناملك؟ لقد صيرتني إنساناً، عشت وحشة الغابة، وأرعبتني مطاردة الدرك، حتى كلب شكيبتي كاد أن يقتلني، وحده البحر شفى جراحي.. أنا مدين لك باستعادة إنسانيتي، أنا قاتل زخريادس الخمار، وكدت أن أميت ابني ضرباً بالعصا، كيف أصبحت نظيفاً من الداخل ومن الخارج؟! المجد لك أيها المبدع الكبير!

لم يصعد خليل إلى المنصة، انتظر الحضور برهة، ترى من المتكلم بعد زكريا؟ قالوا: صالح حزوم، لا بل ابنه سعيد أو الريس عبدوش.

لكن، فجأة صعدت إلى المنصة امرأة بثوب فوق ركبتها، وشعر قصير، ووجه قد طلي بمساحيق مختلفة.

قالت شكيبة لأم حسن: من هذه ال….؟ من سمح لها بالصعود إلى المنصة بهذا الشكل المزري؟ من أي ملهى جاءت؟! المرأة شعرت باستياء الحضور، وبدأت كلامها، أرجو الاستماع، هدوء يا سادة، أنا كاترين الحلوة.. لم أخن صالح مع الأتراك، ولم أقتل الريّس عبدوش، هم أحبوني.. نعم أخطأت وأنا الآن في هذا المحفل المهيب أعترف أمامكم بأن المسؤولية مشتركة، هو أرادني كذلك، فقيدنا جميعاً، أرادني أمثولة لكم.

صرخ صالح حزوم من المقاعد الخلفية: عاهرة.. خانتني مع ابني، وأهانت ابني مع الريس عبدوش، كل هذا يمكن أن أغفره لها، أما الخيانة مع التركي عدوي ومحتل أرضي فهذا لا يمكن أن نغفره لها، لقد طردتها من المدينة، وعليكم الآن أن تلعنوها.. أنزلوا هذه العاهرة عن المنصة!

تحول حفل التأبين إلى محاكمة، ودبت الفوضى فيه، لكن زنوبا ومريم السودا وامرأة القبو أنقذن الموقف، وطلبن من صالح التزام الصمت ومتابعة حفل التأبين، فامتثل صالح لطلبهن احتراماً لشخص الفقيد.

تابعت كاترين كلامها: لقد فقدنا نصيراً لنا، ولقضايانا، إنه من باركنا وتعاطف مع مأساتنا التاريخية.. إنني أمامكم أتعهد بالوفاء لقيمه ومبادئه ومثله، وأجعل من سيرته وتضحياته قدوة ومثالاً لي فيما تبقى من حياتي.

بعدها صعد خليل إلى المنصة وقال مخاطباً الحضور: لقد جاءني حنا هارباً من الاضطهاد السياسي، وعاش في بيتي، اكتوى بنار التجربة، عاش صراعاً بين انتمائه الفكري وما يتطلبه منه من تضحية وبين قدراته على المقاومة.. انتصر على ضعفه واكتشف أن البرد ليس من النافذة، إنه من الغربة.. لذلك قرر العودة إلى الوطن بعد غياب عشر سنوات، لم يكتب فيها حرفاً واحداً، إنه ابني الذي به سررت. تحية إليك أيها المناضل الشجاع، والمفكر المستنير والأديب المبدع، لكل ما قدمته، للمساكين، للفقراء، للمضطهدين، أنت يا من تجاوزت الفقر ووصلت إلى العالمية، ستبقى حياً في قلوب الملايين من محبيك، وقرائك، لك الخلود الذي لا تؤمن به، ولك الشهرة التي لم تحترق بنارها، ولك التعظيم حقيقة وليس عزاء!

العدد 1104 - 24/4/2024