تساؤلات للحوار

غياث رمزي الجرف:

 (لقد فكرتُ، منذ قرأتُ عمر الفاخوري في الأربعينيات، كيف يكونُ الأديب من لحم ودم، وليس من حبر وورق… كان الإنسان في داخلي إنساناً تواقاً إلى ما يريد أن يكون، لا ما يُراد له أن يكون)حنا مينه

 

(1)

المفكر (فؤاد زكريا) يرى أن الثقافة ليست أماناً واطمئناناً، وليست دعة وهدوءاً، وإنما هي العيش في خطر، وهي قلق وتوثب دائم. والكتاب العظيم والفن العظيم يكدران صفو حياتك، ويقضيان على استقرارك، ويجلبان لك القلق والانشغال.

أما المرجعية الفكرية، عربياً وعالمياً (إدوارد سعيد) فقد ميّز بين نوعين من المثقفين: النوع الأول هو المثقف الاحترافي الذي يرى في الثقافة مهنة من المهن (…)، والنوع الثاني هو المثقف الهاوي (الذي ينتمي إليه سعيد بامتياز) الذي يرى في الثقافة رسالة غير قابلة للتسليع والتداول والتفاوض، وغير خاضعة لقانون العرض والطلب. ويقوم (بتمثيل) المنبوذين والمهانين والمحرومين والمغبونين والمهمشين واللامسموعين. وتضع ما تدعو إليه تحت تصرف هؤلاء جميعاً.

إنّ هذه الكلمات المفصلية للمفكرين (زكريا) و(سعيد) تنطبق على جملة من المثقفين الحقيقيين، من مفكرين ومسرحيين وروائيين وشعراء وكتّاب، نذكر منهم: محمود أمين العالم، سعد الله ونوس، غسان كنفاني، أمل دنقل، محمود درويش… وتصحّ تماماً على حياة (حنا مينه) الغنية على كل صعيد، وعى ثقافته وإبداعاته الروائية، وعلى مقالاته وكتاباته المختلفة، فالثقافة لدى حنا مينه لم تكن في يوم من الأيام إلا ثقافة الرسالة. ولم تكن في أي وقت من الأوقات ثقافة مهنة. الثقافة الرسالة كانت شغله الشاغل، وهاجسه الحقيقي، وهمّه الأكبر، وقلقه الأعظم. وحنا مينه رفض أن يكون أديباً من حبر وورق، كما رفض رفضاً قاطعاً أن يكون ما يُراد له أن يكون. حنا مينه الذي عانى من البطالة والّتشرد والغربة والفقر والجوع والحرمان، وقف ضد الفقر والاستكانة والقمع والظلم والفساد والاستبداد والتسلّط وشريعة الغاب، ودافع بلا هوادة عن إنسانية الإنسان حتى لحظة رحيله.

 

(2)

في رواية (الثلج يأتي من النافذة) التي تروي، فيما تروي، ألم المنفى والحنين إلى الوطن، وتحكي حكاية السائرين على درب الكفاح والنضال، يقول حنا مينه ل (فياض) المناضل/ المثقف: (هذا هو ابني الحبيب الذي به سررتُ). وبعد عقود من الزمن يقول (حنا) في رسالة له لعاطف البطرس (13/6/2012): إلى الدكتور عاطف البطرس، ابني الحبيب الذي به سررتُ.

ترى هل هذه الكلمات الأثيرة لدى حنا مينه، دخلت عالمه الفكري وقاموسه اللغوي من باب الموروث الديني/ الثقافة الدينية (وهو ذلك الطفل الذي عمل أربع سنوات بالخدمة في الكنيسة) أم هي من باب (التناص) مع الإنجيل المقدّس لا أكثر ولا أقل.

وفي هذه الرواية (الثلج يأتي من النافذة) يعلن الأديب العربي السوري/ العالمي حنا مينه بوضوح وجلاء أن الثلج/ البرد لا يأتي من النافذة (..؟!) فمن أين يأتي إذاً؟ هذه مفارقة. ها هنا، أودّ التنبيه إلى أن النافذة احتلت مكاناً مرموقاً في هذه الرواية، كما لعبت (النافذة) دوراً جوهرياً في أدب (نجيب محفوظ) (…) والسؤال: ماذا شكّلت النافذة في الأدب عموماً، وفي أدب الكبيرين مينه ومحفوظ خصوصاً؟

وفي هذه الرواية (الثلج يأتي من النافذة) يقول أديبنا حنا مينه: المرأة كالنوم تطلبه فيأبى، تتركه فيأتي. هل هذا التشبيه يصح أن يصدر من كاتب ماركسي/ لينينيّ ما برح ينتصر للاشتراكية العلمية؟ وفي نهاية المطاف، هل هذا الموقف/ التشبيه هو موقف تقدمي أم هو رجعي على هذا النحو أو ذاك؟

 

(3)

قبل عامين من رحيل صاحب (المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، الشمس في يوم غائم، الياطر، امرأة تجهل أنها امرأة، الربيع والخريف، بقايا صور، مأساة ديميتريو، الذئب الأسود، ناظم حكمت وقضايا أدبية وفكرية…) جرى لقاء بينه وبين الدكتور عاطف البطرس، الذي ينظر إليه على أنه الابن الروحي الذي سرّ به، تحدثا فيه عن قضايا سياسية واجتماعية وأدبية، وتساءل (حنا) بحسرة وأسف عن مصير كتبه وصوره ولوحاته بعد رحيله (…) وقال: دعك يا بني من أكذوبة الخلود، ولا تتحدث عن الشهرة والعظمة، كلها للتعزية، مصير الإنسان إلى الفناء، الفراعنة وحدهم قد أدركوا ذلك، فاخترعوا فن التحنيط، ولكن أنتم ابتكرتم فن الكلمة: (هزمتك يا موت الفنون جميعها).

الذي يعنيني بالدرجة الأولى من هذا اللقاء قول حنا مينه: (إنني أنتظر الموت، لكن هذا اللعين لا يأتي). وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار وصيته الشهيرة التي أوصى فيها، فيما أوصى، بأن لا يبكيه أحد (..؟!) يكون لدينا سيل من الأسئلة، مثلاً، لماذا كاتب كبير مثل حنا مينه ينتظر الموت، بل يتمناه؟ ولماذا كانت وصيته في الأساس على الصورة التي نعرفها؟ ولماذا أوصى بأن لا يبكيه أحد؟! ولماذا… ولماذا؟

كل ذلك ماذا يعني على الصعيد النفسي والوجداني والاجتماعي؟ هل كان حنا مينه سعيداً، أو على الأقل مرتاحاً في حياته عندما بدأت تدنو منه اللحظة الخريفية وما بعدها؟ هل هو السأم والضجر والوحدة، وهذا الجسد الكليل؟ هل يكمن وراء الأكمة النكران والجحود وفقد الأنيس الاجتماعي الإنساني الحميم؟ هل… وهل… وهل؟

لساني يتعثر، يدي ترتجف، قلمي ينتحب وقلبي يسيل.

 

(4)

هذه تساؤلات للحوار والكتابة أضعها بين يدي النقاد والمهتمين والمحبين، ولا سيما صديقي القريب الأستاذ الناقد الدكتور عاطف البطرس.

وفي هذا المقام أرى، فيما أرى، بعيداً عن (الإنشاء العربي والزجل اللبناني) أن الراحل حنا مينه، أحد أهم أعمدة الرواية العربية المعاصرة، لم (يدرس) ولم تُتناول إبداعاته وكتاباته ومساهماته المختلفة التناول الجدير بها، التناول الذي تستحقه عمقياً وأفقياً في حدود علمنا وعلى وجه الإجمال.

 

وبعد..

القامة الأدبية الفذّة والخضراء.. حنا مينه، الغائب/ الحاضر أبداً، الموت أسىً وشجن ولوعة، والفراق دائماً وأبداً وجع وجيع. رحلت، بحزنك الجليل النبيل، ومعك بحرك صديقك المخلص، الوفي، من جحيمنا الأرضي (…) إلى ملكوتك الأعلى لعلك تجد فيه ما يليق بإنسانيتك ومفردات وجودك، ما يليق بإبداعاتك الخالدة.

العدد 1104 - 24/4/2024