عن الموسيقا والتّخدير

حسين خليفة: 

 (المخدرات الرقمية) عبارة جديدة على السّمع، وقد حرّضتني الزميلة إيمان ونوس على قراءة الكثير عنها بعد طرحها في ملفّ العدد، وتكوّن لديّ رأيٌ يختلف عما يطرحه الكثيرون في هذا الصدد.

إذا اعتبرنا أنّ كلّ ما يسبّب نشوة الجسد والروح، في أوقات الراحة والمتعة، والعطل، والسهرات، خطراً على المجتمع والحياة، لربما نصل إلى  زمنٍ يصبح فيه شرب كأس بيرةٍ مثلاً خطراً، أو سماع أغنيةٍ لأم كلثوم مثلاً، ألا تقترب في تأثيرها على الجسد والروح، من تأثير المخدّر أحياناً؟! وهل هذا يُدينها، أم هو في صالح الأغنية.

حين تقوم الموسيقا بحملك معها إلى أعالي الروح، تكون موسيقا حقيقيّة، وراقية، وممتعة، وهي حالاتٌ أقرب إلى  حالة من يتعاطى المخدّر الكيماوي، لكن شتّان بين الحالتين.

حتى عندما نقرأ روايةً ممتعةً، نحضر فيلماً سينمائياً مدهشاً، أو نقرأ قصيدةً شاهقةً، نُحلّق معها إلى  فضاءاتٍ لا نظير لها، في الحياة الواقعية، فنندفع إلى  التعبير عن نشوتنا بالرقص، أو الغناء، أو الضحك، أو البكاء… الخ، وهي حالاتٌ تفوق أحياناً حالة من يتعاطى العقاقير المخدّرة القاتلة، لكن مرّةً أخرى شتّان بين هذه وتلك.

أترك موضوع التعريف بهذا النوع من (المخدرات) للزملاء الأعزاء، وللإنترنت أيضاً، فهو يعجُّ بالمعلومات، والتّحقيقات، واللقاءات عنها، وهناك اختلافٌ حتى بين الاختصاصيين العلميين، والأطباء، والأجهزة الخاصّة بمكافحة المخدرات، على اعتبارها مادةٌ مخدرةٌ، أم مجرد أداةٍ للمتعة، والتّنفيس عن ضغوط الحياة.

طبعاً في كل حقلٍ هناك حالاتٌ متطرفةٌ، تكون شاذةً تؤكد القاعدة، وفي عودةٍ إلى موضوع شرب المشروبات الرّوحية مثلاً، كم تمتلئ أرواحنا بالنّشوة والألق، حينما نشرب كأساً من النّبيذ، بحضور أصدقاء وأحبة..؟ وكم هو جارحٌ ومثيرٌ للشفقة، منظر شخصٍ تجرّع كمياتٍ كبيرةً من المشروب ذاته، فأصبح فرجةً للآخرين، وتسبّب بأذىً في جسده، وروحه، عوضاً عن أن يعيش لحظاتٍ جميلةً مع محبيه.

أدّعي أن الكلام ينسحب على ما يسمى بالموسيقا المخدّرة، فما الصرعات التي تنتشر على (الاإترنت) عن هذه الأنواع من الموسيقا، إلاّ (زعبراتٌ) موسيقيةٌ، تجذب رواداً لها، مثل كل الصرعات الموسيقية التي انتشرت، وجذبت جيل الشباب، لكنها لم تترك بصماتٍ لها، إلاّ في الحالات التي تكون ذات قيمةٍ فنيةٍ وموسيقيةٍ عالية.

تحضر أمسيةً شعريةً، وهي أقلُّ الفعاليات الثقافية حضوراً هذه الأيام، فتجد معظم الحضور يتفاعلون مع الشّعرِ، سواءٌ بتعابير وجوههم، أو بإنصاتهم، وتجد واحداً أو أكثر من الحضور، يصرخون في نهاية كلّ جملةٍ بعبارات التّهليل، والتّكبير، إعجاباً بما يُقرأ، وهؤلاء حالاتٌ متطرفة من التّفاعل مع القصيدة، وهي حالاتٌ صحيةٌ طبعاً، لكن الشباب الذين يعيشون حالاتٍ أقرب إلى  التّخدير مع موسيقا مدروسةٍ ومُعدّةٍ لهذه الغاية، هم حالاتٌ متطرٌّفة من حالةٍ شبابيةٍ عامةٍ، تسمع الموسيقا، فترى الشباب والشّابات يضعون سماعات الموبايل، وهم في وسائط النّقل، أو يمشون على الأرصفة، ويقطعون الشوارع، أو يجلسون مع الأهل، ولا يسمعون كلّ ما يُقال، بل إنّ حالاتٍ من حوادث السير، كان سببها إغلاق أذني الضحية بالسماعات، وسهوه عن مرور سيارةٍ أو دراجةٍ.

أختم بالتذكير بأننا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت، وقد كنّا شباباً فائرين بأفكار الثورة، والنضال، والصّراع الطّبقيّ، ونلتهم كتب الماديّة الجدليّة، والتاريخيّة و(ما العمل) وغيرها، كنّا نتهم من يستمع إلى أمّ كلثوم، بأنه صاحب ذائقةٍ برجوازيةٍ (البعض كان يقول إقطاعيةً، ففي زمن الخديوي، كانت مصر أقرب إلى عصر الإقطاع)، وكنّا نقول عن أغانيها إنها مُخَدِّرة، أذكر ذلك تماماً، رغم أن معظمنا كان لا يطرب فعليّاً إلاّ لأغانيها، وأغاني عبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، ونجاة الصغيرة.

هي وجهة نظرٍ، و(اختلاف أمتي رحمة).

husenkhalife@hotmail.com

العدد 1105 - 01/5/2024