التدمير الاقتصادي وادعاءات الإنسانية الزائفة

جريدة النور

د. سنان علي ديب:

 هدف السيطرة والاحتكار الاقتصادي هو الغاية الأساسية للدول المسيطرة والمسبب لأغلب الحروب والكوارث، ونبع الإبداع للكثير من الجرائم التي تقوم بها دول الاستكبار العالمي أو معولمة العالم الجديد، في النسخة المطورة لما كنا نسميه إمبريالية، لدول محاطة بهالة حمائية ومتعاونة في نسج العلاقات الدولية بما يخدم مصالحها ويعرقل النمو والتنمية للآخرين. وعلى ذلك فإن أغلب العلاقات والهياكل والبنى السياسية تهيئ بما يماهي هذا الهدف الأسمى، ولكن في العقد الأخير بعد تقويض أغلب المنافسين ورسم الخطوط العامة للعلاقات الدولية، بما ينسجم مع المصالح الضيقة للدول المنتصرة فيما كانت تسمى الحرب الباردة، استعر الصراع المصلحي البرغماتي بين هذه الدول، هذا الصراع الذي ما لبث أن ظهر وبان، لأن نموذجهم الرأسمالي الاستعماري كالنار التي لا ترحم أحداً، فلا أحد يملك حصانة عن التحييد الاقتصادي لأي منافسة ممكنة، في ظل عقلية استراتيجية لا تؤمن لا بالقيم ولا بالأخلاق ولا بالأحلاف الدائمة لمن يقع خارج جغرافيتهم. إن نموذج العولمة الذي كان نموذج إعلامي تضليلي مغلف بمصطلحات وعبارات غايتها التضليل والتعمية على الانجرار بمشروع أمريكي وحداني لقيادة العالم متشرب أهدافه وغاياته من تجمّع شخوص رأسمالية هدفها احتكار الاقتصاد العالمي ومنع المنافسة من قبل أي آخر، في ظل برغماتية لا تؤمن بصداقات دائمة، وإنما بأدوات وحاجات تنتهي بانتهاء الدور. وهذا ما لحظناه في السنين الأخيرة من صراعات بين أصدقاء الأمس، وتحولات في العلاقات الدولية خارج إطار حلفاء الأمس والأعداء اللدودين، وتغييرها بالشكل الأكثر فائدة مع أدوات قد تحقق أكثر الفوائد الممكنة مع محدودية التأثير المستقبلي لمحدودية التأثير الاقتصادي. وقد تكون هذه التحالفات مرحلية لأسباب جيوسياسية. وفي النهاية ،الغاية الأخيرة هي تكريس القيادة الفردية الأمريكية للعالم بما يخدم مصالحها وأدواتها السامة، والباقي لا ضامن له، وليكون العنوان هو الانتصار الدائم للعنصر الأنغلوسكسوني، الموحي العميق لما نحن عليه والسند لما سيكون، من يوم صناعة الجسم السام الصهيوني بمنطقة هي المشكل التاريخي الحضاري، وهي الموقع الجيوسياسي الأكثر خطورة على المصالح الاستعمارية في حال السير الصحيح والسيرورة التاريخية الصحيحة، وهذا ما جعل هذه المنطقة تحت المجهر الإمبريالي الدائم والهدف الأكبر لتدمير أي حالات تنموية مستقلة مستمرة، وجعلها مركزاً لسلب الكفاءات وللتهجير الدائم ولعدم الاستقرار، ولهذه الغاية القذرة من المنظور الأخلاقي والقيمي والقانوني لا ضير بأي وسيلة، ليكون الهدف النهائي هو السيطرة على العالم عبر السيطرة بالاقتصاد، ولتستمر المعادلة الاستعمارية الأبدية: دول تابعة تستهلك منتجاتنا وهي مصدر للمواد الأولية لصناعاتنا، وإن اقتضت الضرورة ننقل مصانعنا إليها، وكذلك تنمية صناعات ومنتجات لدول محيطة، في دول ذات طموح، لقصقصة التضخم الاقتصادي القادرة على مواجهة مستقبلية، وهو ما وجدناه في دول كثيرة وخاصة بشرق آسيا في مواجهة النمو الاقتصادي إن كان الياباني أو الصيني. ولكن يبقى التفوق العسكري للقائد العالمي ضامن السير بما يخطط له، وإن الوسائل والأدوات المستخدمة للوصول إلى الهدف الاحتكاري المسيطر تغيرت حسب التطورات البنيوية للعالم من جميع النواحي الاجتماعية، الثقافية، السياسية، الاقتصادية، ويكون عدم تجذير تنمية مستقلة، متوازنة، مستمرة، هو الغاية النهائية، لأن أي تطور اقتصادي للدول الأخرى سيكون مقللاً للتحكم والسيطرة لدول المركز بتشكيلته السابقة أو الحالية، وعلى حساب ناتجه الاقتصادي، ولا حصانة لأي آخر من المواجهة للتقويض الاقتصادي، وهو ما لاحظناه مؤخراً من قوانين اقتصادية تخالف الفكر الليبرالي الذي سوقت له دول النهب الحديث المغطاة بالحداثة والحضارة وحقوق الإنسان والديمقراطي، فلم يتوانَ الأمريكي عن فرض رسوم على الكثير من حلفاء الأمس، معرقلة للكثير من الصادرات لحماية منتجاته، في مخالفة صريحة لبرامج البنك الدولي ولصندوق النقد الدولي وللاتفاقات العالمية للتجارة التي لم تترك هذه الدول أسلوباً لفرضها على العالم إلا انتهجته، من الترغيب إلى الترهيب إلى القتل إلى الحصار إلى العقوبات، لأن برامجهم بأسلوب الصدمة المدمر كفيلة بالتدمير والقتل الاقتصادي وتقزيم النمو وتفكيك وتشويه البنى الداخلية لأغلب الدول.

إن سلب العقول عبر الترغيب بالهجرة أو الترهيب أو القتل للتخلص منهم كانت أحد أساليب التدمير الاقتصادي، ولم تتوانَ هذه الدول عن محاولة تفكيك المناهج الدراسية وتخريب العملية التربوية للكثير من البلدان التي أثبتت كفاءة وجدوى بتخريج الكفاءات والكوادر الباعثة للتقدم والتطور والمثبتة لقدراتها في البناء الداخلي لدولها أو للدول الأخرى. وإن تدمير هؤلاء أهم الواجبات لقتل الأمل المستقبلي لأي إعادة تنموية وبناء. ولذلك فإن سوء استثمار الكفاءات وعدم وضعها بالموضع الصحيح وتهميشها وإقصاءها هو من أهم الأهداف والأساليب التي تعمل عليها دولة العولمة لسد أي مسار تنموي قادم، ومن ثمّ تقويض النمو الاقتصادي والاستقلالية والاستمرار بالتبعية وفق المعادلات السابقة. وكذلك من الأدوات المهمة لهم، لتقويض النمو والتدمير الاقتصادي، اعتماد شخوص تابعة لهم تعمل على عرقلة المشاريع الإنتاجية وتعمل على تقويض دور الحكومات في الإدارة التنموية وتقليصه لأبعد درجة، لتتحول إلى خادم لتشريع القوانين التي تخدمهم وتقديم الخدمات اللازمة لهم، ويكون الدور الأهم لهؤلاء ربط اقتصادات البلدان بالاقتصاد العالمي المرتبط بدولة المركز، وليكون عرضة للأزمات المتتالية وقابلاً للتدمير في أي لحظة مناسبة، لعدم امتلاكه للقوة الاقتصادية القادرة على مواجهة الأدوات الموجهة ضده، سواء بالتدمير المباشر عبر افتعال الحروب أو المعارك أو عبر تدمير البنى التحتية أو عبر فرض العقوبات اللا إنسانية أو فرض الحصار القاتل للبشر، في خروج وقح عن كل القوانين الدولية والإنسانية، وكان ما يسمى الإرهاب المصنوع بختم قواد العولمة وتحت رعايتهم هو أهم الأدوات الجديدة للتدمير الاقتصادي بشقيه الحجري والبشري وبتضليل إعلامي مركز ومبرمج باستخدام أدوات العولمة الإعلامية العامة والخاصة المسموعة والمقروءة، وباستخدام أهم الأدوات الإعلام غير المضبوطة وغير المسيطر عليها: أدوات التواصل الاجتماعي، وهذه القوى الارهابية صنيعة من يدعي مواجهتها تستثمر من قبل دول العولمة المنظّرة بالديمقراطية والإنسانية للسرقة العلنية للمعامل والمصانع ولتدمير الشبكة الكهربائية وللجسور والمدارس وللأبنية من أجل ديمقراطيتها الدموية وإنسانيتها الزائفة لتدمير الاقتصاد ونهبه، واستنزاف التنمية، وللحروب الطويلة وكل الغايات موجهة للتفقير وقتل أي استقلالية، ولربط الاقتصاد المحلي بهم، وبالتالي أدوات جديدة لتدمير ما هو موجود وقطع أي محاولات لبناء جديد مستقل حر يراكم خبرات ومهارات مستقبلية. وهكذا وصلت إلى مرحلة من جنون العظمة والوقاحة تبرر أيّ وسيلة لاستمرار السيطرة الأحادية وتدمير الآخرين لمن يؤثر أو يلعب بهذه المعادلة المحمية بالقوة العسكرية المطلقة والتحكم بالاقتصاد عبر عملتهم المعولمة المحمية عسكرياً، ووسط هذه الظروف فإن الكل وسط النار، ولا يمكن المواجهة والتحدي إلا عبر  التحصين الداخلي الذي يقوض الكثير من أدوات التدمير الاقتصادي وإن كان لا يلغيها بالمطلق، وذلك بالاستثمار الأكفأ للموارد والإمكانات، وبالعدالة الاجتماعية، وتحقيق المواطنة العادلة، وبالتربية الحقيقية المكرسة للأخلاق والانضباط وللانتماء، فتدمير الأخلاق كانت إحدى الوسائل للوصول إلى الوضع المأساوي العالمي الحالي. ويستلزم ذلك أيضاً تقويض الفساد، وإعادة تأهيل مؤسسات التنشئة، ومحاولة إعادة الكفاءات واستثمارها بكفاءة. ولكن من دون تغيير قواعد اللعبة الدولية وإعادة الاعتبار لمؤسساتها، تصعب أي تغيرات لقواعد اللعبة فحليفهم اليوم قد يقع بأفخاخهم غداً، ممنوع الاقتراب من مصالحهم ممنوع مواجهتهم، السيطرة على طرق الطاقة ومنع توصيلها إلا بإرادتهم، مع السيطرة على دول إنتاجها هي الغاية الأهم في وقتنا الحالي، البرغماتية الأمريكية لا تؤمن بأصدقاء، وإنما بمصالح وحلفاء متماهين مع ضرورات المصلحة العليا، فالتدمير هدف وعنوان، وآخر أدواته هي الإرهاب المتنامي بتدمير الأخلاق، المصنوع في أهم معاقل ادعاء الديمقراطية وحقوق الإنسان.

العدد 1104 - 24/4/2024