سمير أمين.. الفكر المتوثب والعطاء الدائم اللحاق.. أم بناء مجتمع آخر.. تلك هي المسألة

جريدة النور

د. منير الحمش:

 في مساء الأحد 12 آب (أغسطس) ،2018 في العاصمة الفرنسية، رحل سمير أمين، وكانت حصيلة رحلته الفكرية عشرات الكتب ومئات الدراسات والمقالات باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، فقد كان مهتماً بقضية التنمية في بلدان الجنوب، وبالعلاقة بين الشمال والجنوب، لكنه لم ينس أبداً انتماءه المصري والعربي، فكتب عن الاقتصاد العربي وكتب عن ثورة مصر (2011) وكان مهتماً إلى حد بعيد بما يجري في سورية، وهو أحد أهم مفكري الاقتصاد السياسي العالمي منذ أواخر الخمسينيات، وأحد أكبر المساهمين في تطوير المادية التاريخية والديالكتيك الماركسي.

كان سمير أمين رئيساً لمجلس أمناء مركز البحوث العربية والإفريقية في القاهرة، ومديراً لمنتدى العالم الثالث التابع للأمم المتحدة في داكار، وهو عضو بارز في الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية بالقاهرة، وقد أسهم في مؤتمرات الجمعية العلمية، وقدم إسهامات هامة في الفكر الاقتصادي التنموي في بلدان الجنوب عامة وفي البلدان العربية خاصة. وقد اعتادت إدارة الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، أن تكرم أحد الاقتصاديين العرب المتميزين على هامش انعقاد مؤتمراتها العلمية، وفي 28/12/،2013 جرى تكريم الدكتور سمير أمين، وقد ألقيت الكلمة الافتتاحية لهذا التكريم، كما قدم صديقه الأستاذ حلمي شعراوي، نبذة عن حياته ومؤلفاته وإسهاماته الفكرية.

في كلمتي، تحدثت عن فكر سمير أمين وإسهاماته، ولكني دعوت الجمعية لإقامة ورشة عمل للبحث (في هذا الفكر المتألق المعطاء)، ويبدو أن الظروف لم تخدم الجمعية لإقامة هذه الورشة، في حياته، مما يجعلني أطرح مجدداً طرح هذه الفكرة على الجمعية وعلى المهتمين، علنا نستطيع أن نوفي الفقيد بعض حقّه علينا.

ومما قلته في كلمتي في تكريم الدكتور سمير أمين، ما أجده جديراً بالذكر في هذه العجالة ما يلي:

تعرفت على فكر سمير أمين، قبل أن التقيه شخصياً، عندما قرأت كتابه المميز (التطور اللامتكافئ)،1972 الذي كان امتداداً فكرياً لأطروحته في الاقتصاد السياسي المقدمة إلى جامعة السوربون عام ،1957 فقدم نقده في هذه الأطروحة لبعض المقولات النظرية الاقتصادية البرجوازية، كما هي لدى ريكاردو (القيمة وكمية العمل الاجتماعي الضرورية)، أو الكينزية (عن العرض والطلب إلخ)، فتوصل إلى فكرته الشهيرة عن التراكم والرأسمال على الصعيد العالمي، انطلاقاً من أن هذا التراكم ليس تراكماً في نمط الإنتاج الرأسمالي مطبقاً على صعيد عالمي، وإنما لأن الرأسمالية هي التي تشكل نظاماً عالمياً يخلق الاستقطاب على الصعيد العالمي، وتتشكل من خلال هذه العملية فكرة المراكز والأطراف دون أن يعني تجنيس الكوكب وفق نمط الإنتاج الرأسمالي العالمي.

ومنذ بداياته الفكرية، استخدم سمير أمين التحليل الماركسي والمنهج الماركسي في انتقاداته لسياسات الرأسمالية العالمية في الاستقطاب والاندماج، وكذلك في فلسفته التنموية، وهو في عمله هذا وجد أن ماركس كان أول من وجه انتقاداً راديكالياً للعالم الحقيقي، وأن هذا الانتقاد يسمح بل يتطلب اكتشاف أساس الاستلاب السلعي، واستغلال العمل اللصيق به، ومن هنا تنبع القيمة الأساسية لمفهوم القيمة، ومنها يمكن استيعاب القوانين التي تتحكم في إعادة إنتاج النظام.

لكن سمير أمين بنظرته الثاقبة وفكره العميق، لا يتوقف عند ماركس، بل يرى أن البداية تبدأ من عنده، فماركس كما يقول ليس نبياً يمكن اعتبار استنتاجاته صحيحة ونهائية، فماركس لدى سمير أمين (بلا ضفاف)، لأن الانتقاد الذي بدأه بلا ضفاف، يحتاج دوماً إلى الاستكمال والانتقاد، كما أنه يرى أن الماركسية يجب أن تغْني نفسها دائماً بالانتقاد الجذري، وأن تعتبر أي تجديدات ينتجها النظام كميادين جديدة للمعرفة الإنسانية.

وسمير أمين التواق للمعرفة والعلم، إذ قرأ رأس المال وغيره من أعمال ماركس وأنجلز، فقد شعر بالرضا والارتياح، لكنه يظل يشعر أيضاً بعدم الاكتفاء لأنه لم يجد لدى ماركس إجابة شافية بشأن (تخلف) مجتمعات آسيا وأفريقيا، ولم يدفعه ذلك إلى الابتعاد عن فكر ماركس، بل وصل إلى نتيجة هامة وهي: أن عمله لم يكتمل عندما يدخل في تحليله البعد العالمي للرأسمالية، كما أن ماركس لم يربط بين مسألة السلطة (السياسي)، والاقتصاد (الرأسمالي وما سبقه من أشكال).

وسمير أمين كماركسي لا يتوقف عند ماركس، أو ما بعده من بناة الماركسيات التاريخية، بل يبدأ من ماركس، فكان المحور الأساسي لنتائج محاولته هذه هو وضع (قانون للقيمة المعولمة) يتماشى مع أسس قانون القيمة الخاصة بالرأسمالية كما اكتشفه ماركس من جهة، ومع واقع التنمية المعولمة غير المتكافئة من جهة ثانية.

ومن هنا نجد أن إسهامات سمير أمين عملت على (استكمال) أطروحات ماركس وتصحيحها، مشيراً بوجه خاص إلى دور الائتمان في تحقيق التراكم، وكذلك التحليل الذي قام به بشأن دور القطاع الثالث في امتصاص فائض القيمة، فضلاً عن انتقاده لنظريات ماركس بشأن تحديد معدل الفائدة، وريع الأرض، وتقديم اقتراحات بديلة بهذا الشأن.

إلا أن إضافته الرائدة تتعلق بالانتقال من قانون القيمة إلى قانون القيمة المعولمة على أساس التراتب المعولم لأسعار قوة العمل حول قيمتها، ذلك أن عولمة القيمة والممارسات المتعلقة بالحصول على الموارد الطبيعية هي أساس الريع الإمبريالي، وهذا ما يدعوه المحرك للتناقضات الفعلية للرأسمالية الإمبريالية، كما هي في الواقع والصراعات المرتبطة بها التي تشتبك فيها الطبقات والأمم بجميع الارتباطات المركبة الخاصة بها.

وإذا كان سمير أمين يرى أن فكر (ماركس) (بلا ضفاف)، بمعنى الحاجة الدائمة لاستكماله ونقده، فإننا أيضا نرى في فكر سمير أمين، أنه (بلا ضفاف)، الأمر الذي يستوجب على المفكرين الاقتصاديين والساسة استكمال رؤيته، خاصة أننا نشهد الآن إرهاصات الانتقال من نظام عالمي قائم على الاستغلال وعدم العدالة والمساواة، إلى عالم قد يكون متعدد الأقطاب، وقد يدخل العالم في مرحلة جديدة من الفوضى والاضطراب، وفي جميع الحالات فإن شعوب الجنوب، التي طالما كانت محور اهتمام وبحوث سمير أمين، قد تكون هي المتضررة، كما قد تستفيد مما يجري، ويظل الأمر مرهوناً بما تقدمه هذه الشعوب لنفسها وللعالم.

ومن القضايا العديدة، والمشكلات الكثيرة، التي طرحها سمير أمين وناقش فيها وحاضر حولها، وكتب عنها، مثقفاً ومفكراً وأديباً، وواعياً، تساؤلاته التي أجاب عنها حول قضايا العلاقات بين الشمال والجنوب، وحول الاستقطاب وتمركز الثروة، وكانت الإجابات بدورها تستدعي أسئلة أخرى، ولم يكن سمير أمين بخيلاً في الإجابة، أو متردداً أو مستمهلاً. كانت إجاباته حاضرة، واضحة، صادقة، مليئة بالأفكار والمواقف والمعلومات والشفافية.

وفي ذلك كله، ومن خلال كتبه العديدة العربية والإنكليزية والفرنسية، كان هناك خيط واحد يجمعها، هذا الخيط الفريد هو سمير أمين، بفكره وتاريخه، حاملاً هموم العالم على كتفيه، وخاصة هموم الجنوب برؤيته الثاقبة وبخلفيته الماركسية، ومضمونه الإنساني، وتطلعاته الأممية، منذ بداية تكوينه الفكري حين كتب أطروحته عام (1957) عن الآثار البنيوية للاندماج العالمي للاقتصادات السابقة على الرأسمالية، وهي دراسة نظرية للآلية التي أنتجت الاقتصادات المسماة المتخلفة، وصولاً إلى (التراكم على صعيد عالمي)،1970 ثم (التبادل اللامتكافئ في قانون القيمة)،1973 الذي عمق حول دور الإمبريالية في مؤلفه (الإمبريالية والتطور اللامتكافئ)،1974 وصولاً إلى مؤلفاته العديدة، التي تظهر بتسلسلها التاريخي تطور أطروحته في الرأسمالية والاشتراكية، وهو في ذلك كله التزم التحليل الماركسي للواقع الاجتماعي، انطلاقاً من قناعته منذ بداية تكوينه الفكري بأن الاشتراكية ستفرض نفسها بوصفها الرد الإنساني الوحيد والضروري على جرائم الرأسمالية وقبحها.

وكان أحد استنتاجاته الهامة هي ربطه تاريخ التوسع الرأسمالي، بتاريخ الاستقطاب على الصعيد العالمي، وما نجم في هذا الربط من تساؤل عن أسباب عدم توجه الرأسمالية إلى ردم الفجوة بين المركز الرأسمالي (المتطور) وأطرافه (المتخلفة).

وكانت الإجابة عن هذا التساؤل محلاً لاهتمامات سمير أمين الذي عكف على تطويرها وتعميقها باستمرار.

وقد انطلقت هذه الإجابة من ملاحظتين:

الأولى: طموحه الدائم إلى التقاط حقيقة الاستقطاب الرأسمالي في شموليته، وفي إطار المادية التاريخية.

الثانية: هي معرفة ما إذا كان من الممكن إزالة الاستقطاب في إطار الرأسمالية (حتى ولو بصورة تاريخية).

وإذ يطرح هذا السؤال على الجميع، فمن الطبيعي أن يكون هناك إجابات مختلفة، مما دفع سمير أمين إلى صياغته بطريقة أخرى:

(هل يستطيع التوسع الرأسمالي في المستقبل المنظور أن يطور مجتمعات الأطراف أو بعضها، في اتجاه يقلص من الاستقطاب؟!)

ولم يكتف سمير أمين بطرح السؤال، بل قدم إجابته العميقة والشاملة، إنها بالتأكيد إجابة سلبية، ذلك لقناعته، وهو على حق، بأن الاستقطاب ملازم للرأسمالية، فهو ليس نتاجاً لشروط ملموسة خاصة تمارس فعلها هنا أو هناك، إنما هو نتاج لقانون التراكم على الصعيد العالمي.

وتطرح هذه الإجابة ثلاث قضايا سياسية هامة:

أول هذه القضايا هي الوقوف على ما إذا كان الخيار الاشتراكي (ضرورة تاريخية)، وبالتالي تحقيق ما لا يمكن تحقيقه في إطار الرأسمالية، أي (اللحاق)، وبمعنى آخر، إزالة الآثار التاريخية للاستقطاب عن طريق تطور متسارع للقوى المنتجة.

وتلخيص هذه القضية ما أبرزه سمير أمين من تناقض يمكن صياغته في عبارة (اللحاق أم بناء مجتمع آخر؟)

والقضية الثانية هي لماذا كان جواب الشعوب المعنية، حتى الآن، وفي المستقبل المنظور، جواباً جزئياً ومخيباً للآمال؟

أما القضية الثالثة فتأتي من خلال شخصية سمير أمين واهتماماته، والجهود الفكرية التي بذلها من أجل إعادة رسم العلاقة الوثيقة ما بين مقولاته التي يعتقد بها، وتطور العالم الواقعي كما وعاه وأدركه في أبعاده الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن هذه الزاوية نفهم كتابات سمير أمين على أنها أوسع من المعنى الأكاديمي الضيق، فهو يعتبر الكتابة فعلاً اجتماعياً مهماً يوازي غيره من الأفعال. فهو عندما يكتب يتوجه إلى جمهور القراء المثقفين والمناضلين، ولا يهدف إلى اقناع الوسط الأكاديمي عبر (تكديس وإبراز المعارف وتقديم المراجع للقراء)، ويقدم نفسه على أنه عالمي التوجه، أي أمميّ، ولذا فإنه يدعو الشعوب إلى مواجهة (أممية رأس المال)، ببناء أمميتها التي تحمل في طياتها تجاوزاً كونياً للآفاق الثقافية الوطنية وغيرها.

وهو بهذه النظرة ينطلق من وجهة العالم الرأسمالي الطرفي، وتحديداً من العالم الأفرو آسيوي (ذي الثقافة غير الأوربية) ليس بسبب إنتمائه إليه، وحسب، وإنما بسبب أن هذا العالم هو موضوعياً، الضحية الأساسية للرأسمالية القائمة بالفعل والاستقطابية بطبيعتها، وما ينتج عنها من مآسٍ اجتماعية تشكل التحدي الحقيقي الأكبر الذي تواجهه الإنسانية.

وسمير أمين الذي ينطلق في بحوثه وتحليلاته من قاعدة نظرية وفكرية ماركسية، يبدو أنه لم يجد فيها (أي الماركسية) إجابات مقنعة بشأن قضية عولمة الرأسمالية، بعد أن توصل إلى أن الرأسمالية في توسعها (المعولم) قد أنتجت وأعادت إنتاج وعمقت على نحو كبير الاستقطاب بين المركز والتخوم.

وهذا ما يؤكد نظرته إلى ماركس، فهو يرى ماركس (بلا ضفاف) لأن الانتقاد الذي بدأه بلا ضفاف، يحتاج دوماً إلى للاستكمال والانتقاد، (فالماركسية كما تتشكل في لحظة معينة يجب أن تخضع للانتقاد الماركسي)، والماركسية يجب أن تغني نفسها دائماً بالانتقاد الجذري، وأن تعتبر أية تجديدات ينتجها النظام كميادين جديدة للمعرفة الإنسانية، ولهذا فإن سمير أمين يرى أن (كل ما هو مضى يشكل مرحلة في تطور لا يعرف النهاية، ويجري استكماله جماعياً، أي من قبلي أو من قبل الآخرين …).

وكما نظر إلى ماركس على أنه (بلا ضفاف)، فإن سمير أمين أيضا يرى نفسه (بلا ضفاف) أي قابلاً للانتقاد والحوار، فبهذا، وبهذا فقط، تغنى المعرفة الإنسانية، ويتطور المجتمع، وترقى ثقافة البشر.

العدد 1102 - 03/4/2024