مناورات (الشرق 2018) أبعادها ورسائلها؟

د.صياح عزام:

من المعروف أن روسيا الاتحادية، قد فقدت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، علاقاتٍ سياسية مع حلفائها، الذين كانوا يوفرون لقواتها إمكانية التموضع الاستراتيجي، في مواجهة الاستملاك الأمريكي لبحار العالم، وعلى سبيل المثال: خسرت روسيا دول أوروبا الشرقية، وبعض بلدان الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، وأمريكا الجنوبية، التي انتقلت إلى المحور الأمريكي، وبناءً على ذلك، لم يعد للأسطول الروسي قواعدٌ يعسكر فيها، في مختلف محيطات وبحار العالم، ولم يتبق لروسيا إلا منفذٌ صغيرٌ على بحر (أزوف)، كانت تتقاسمه مع أوكرانيا، التي انتقلت بدورها إلى المعسكر الأمريكي، علاوةً على أن المنفذ المذكور مُراقبٌ بالعيون الأمريكية والأطلسية.

الآن، تعود روسيا إلى البحر المتوسط للمرة الأولى، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989، تعود بقوةٍ تجمع بين دبلوماسية الأساطيل، والتهديد العلني بحربٍ فعليةٍ، وقد تجسدت هذه العودة، بانطلاق أضخم المناورات لقواتها البحرية، والجوية، والفضائية، منذ قرابة أربعين عاما،ً شاركت فيها كلّ من الصين ومنغوليا، وذلك في عرض قوةٍ هائلٍ، يردّ على التهديدات الأمريكية والغربية، بشنّ عدوانٍٍ كبيرٍ على سورية، إذا هاجم الجيش العربي السوري إدلبَ، وهكذا تقف هذه القوة الروسية أمام  حشدٍ غير مسبوقٍ من الأساطيل الأمريكية، التي تعربد في مياه البحر المتوسط، والخليج العربي، بذريعة أن الجيش السوري سيهاجم إدلب، وسيستخدم السلاح الكيمياوي فيها.

لاشك بأن هذا العرض العسكري الروسي الضخم، يشكل رسالةً قويةً لأمريكا وحلفائها، مفادها أن أيّ إجراءٍ عسكريٍ عدوانيٍ على سورية، بهدف منعها من تحرير إدلب، سيتم التصدي له وإجهاضه، في الوقت نفسه، وأن روسيا لن تسمح بتحقيق الهدف الأمريكي الغربي الرامي إلى إقفال الحدود السورية- العراقية، من البوكمال إلى التنف، ومنع الأردن من فتح معابره، إلى جانب رعاية عمليات تفجيرٍ جديدةٍ لتنظيم داهش الإرهابي، في كل من سورية والعراق.

وتقول الرسالة الروسية أيضاً، لطالما أنهت روسيا بقيادة الرئيس بوتين مسألة التفرّد الأمريكي بالقرار الدولي، الذي امتلكته واشنطن منذ عام 1990 بشكلٍ حصري، فلماذا لا ينسحب هذا الأمر على الحركة في البحار التي كانت أيضاً شبه مؤمّمةٍ من قبل أساطيل أمريكا؟!

إذاً، هذا العرض العسكري الروسي البحري، من خلال هذه المناورات الضخمة، أنتج توازناً استراتيجياً بحرياً، يقضي على أحادية واشنطن البحرية، إن صحّ التعبير، وبالتالي فإن هذه التهديدات الأمريكية والغربية، لن  تنجح في منع الجيش العربي السوري، وحلفائه، من تحرير إدلب، وإن أخّرت ذلك قليلاً.

جديرٌ بالذكر أن الرئيس الروسي بوتين، حضر شخصياً المرحلة الأخيرة من المناورة، وألقى كلمةً دعا فيها إلى ضرورة استمرار روسيا في تعزيز قواتها المسلحة، للتّصدي لأيّ عدوانٍ عليها، وأيضاً لمساعدة الحلفاء، بالمحصلة، إدلب ستعود إلى حضن الوطن السوري، إما عن طريق المصالحات، وإما عن الطريق العسكري.. هذا قرارٌ سوريٌ لا رجعة عنه، بتخليص إدلب من هذا الورم السرطاني الإرهابي الخبيث، ثم التفرغ لاستعادة الأراضي السورية، التي تسيطر عليها تركيا، والولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن تواجد القوات العسكرية لهاتين الدولتين، هو احتلالٌ واضحٌ، يخالف قرارات الشرعية الدولية.

لقد وفّرت الرغبتان السورية والروسية، من خلال التقائهما، مساحاتٍ كافيةً تشرف على ساحل شرق المتوسط مباشرةً، وبعضها بعيدٌ نسبياً عن الساحل، تسمح للقوات الروسية بإقامة مواقع دائمةٍ ومهمةٍ، تستطيع من خلالها وبواسطتها، المشاركة بتوازن القوة الرادعة في إدارة البحر المتوسط، وكسر هيمنة الأساطيل الأمريكية والغربية عليه، والعربدة فيه كما تشاء، جديرٌ بالذكر أن سورية كان لها بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد، دورٌ وازنٌ في إعادة التوازن بين الولايات المتحدة، وروسيا الاتحادية، وهذا التوازن ينعكس بشكلٍ إيجابيٍ على الدول الصغرى، إذ يساعدها على التخلص من الجنون الأمريكي العسكري، والاقتصادي، الذي يتجسّد في تفجير النزاعات المسلحة هنا وهناك، وشن الحروب الاقتصادية وغير ذلك.

أخيراً، هناك عواملٌ أخرى تمكن روسيا من تحقيق توازنٍ بحريٍ مع أمريكا في المتوسّط منها، أن روسيا قوةٌ عظمى، ولديها سلاحٌ يتفوق على السلاح الأمريكي، ولديها أيضاً قدراتٌ عسكريةٌ وازنة، إما بالنقل الجويّ، أو بخط العبور عبر بحار (أزرف، الأسود، مرمره، إيجه، المتوسط).

باختصارٍ إنّ المناورات البحرية الروسية الضخمة، في البحر المتوسط، حملت لأمريكا ولحلفائها أكثر من رسالةٍ قويةٍ، رسائلٌ أعمق بكثيرٍ من دبلوماسية الأساطيل.

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024