غزة.. أغنية للمقاومة

موسى الخطيب:

مسيرة العودة في قطاع غزة تدخل أسبوعها الرابع والعشرين وهي تتسلح بالإيمان بمشروعية حقها في العودة إلى أرضها المنهوبة ووطنها المحتل من قبل الصهاينة بتشجيع أمريكي فاقع، وكسر الحصار الظالم وتجويع أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني.

لقد سجلت وقائع الهبة المليونية التي كسرت حاجز الخوف واجتازت السياج الفاصل على أكثر من محور رغم التحصينات الصهيونية وانتشار القناصة، وبالرغم من التحذيرات التي أطلقها العدو والتي توعد بالموت كل من يقترب من الحدود، لكن البطل الفلسطيني، هذا النموذج المتمرد على الزخم السياسي المهادن، لم يأبه لنباح الصهاينة. فقد أقسم أنه جاء ليقف في وجه أسطورة الغزاة وأنه الباحث عن الجذور ونهار الأرض الفلسطينية، وهو يدرك تماماً أنه سيدفع الثمن من دمه وخيرة شبابه من أجل الحصول على حق العودة.

تقول إحصائيات الانتفاضة الشعبية إن مجموع شهدائها منذ انطلاق فعاليات مسيرة العودة في 30 آذار الماضي حتى اللحظة قد قارب 200 شهيد، وأكثر من 18500 ألف جريح سقطوا بسبب المواجهات العنيفة مع العدو.

ورغم عمليات القصف الجوي والتوغل البري لدبابات الاحتلال فقد تمكن العديد من الشبان الفلسطينيين من قطع أجزاء كبيرة من السياج الفاصل عن طريق مقصات حديدية كانوا يحملونها، فقد دخل عدد كبير من المنتفضين الجزء الآخر من الحدود.

إن ازدياد خطر التهديدات الداخلية للأمن الصهيوني من قبل فصائل الثورة الفلسطينية العاملة في غزة وما شهدته إسرائيل من عمليات إطلاق البالونات الحارقة والطائرات الورقية، هي تحول نوعي مهم في صراعها مع الصهاينة واستهداف العمق الاستراتيجي لها، وغدت هذه العمليات رقماً صعباً في معادلة الأمن القومي للصهاينة، وبرهنت على عدم جدوى الحل العسكري لحفظ الأمن لها، بعد أن أدخل الفلسطينيون سلاحاً جديداً ضدها، وقد شكلت تلك الأساليب الجديدة التي أدخلها الفلسطينيون في استراتيجية قتالهم مع الصهاينة هاجساً لدى المؤسسة العسكرية للصهاينة، وغدت تجربة المقاومة في غزة ودورها في معادلة الصراع والإنجازات التي حققتها ظاهرة تحظى باهتمام المؤسسة العسكرية هناك، ووجدت نفسها أمام وضع جديد مختلف تماماً عن ذلك الوضع الذي ساد إبان الانتفاضة الأولى (1987-1993) التي شكلت الحجارة السلاح الأساسي لها. فقد تبلورت عدة عوامل دفعت في هذا الاتجاه من جانب المقاومة في غزة، أهمها ما اتضح من أن نتائج العملية السلمية لم تصل إلى المستوى الذي كان الفلسطينيون يطمحون إليه في ظل مشاكل التطبيق من جانب العدو.

وإذا كانت السلطة في رام الله قد نفضت يدها من قضية شعبنا ومازالت تتمسك باتفاقية أوسلو، وهذا أمر غير مفهوم أن يتم الاعتراف بدولة تحتل الأرض وتقتل الشعب وتشرد الملايين وتنهب الممتلكات وتدمر الاقتصاد وتعتدي على الكرامة الوطنية لشعب بأكمله، وغير مفهوم حتى الآن لماذا لم تصدر بياناً علنياً يعلن سحب الاعتراف بالعدو بعد الجرائم التي ارتكبها في غزة.

حاول الفلسطينيون من أجل الرد على الهجوم الصهيونية الذي استخدم مروحياته ودباباته وطائراته من نوع أف 15 وزوارقه البحرية تقصف المدن والقرى أن يدخلوا معادلة شبيهة بمعادلة صواريخ الكاتيوشا التي استخدمها حزب الله في الجنوب اللبناني، وصنعوا صواريخ عرفت باسم (القسام) كما قاموا بإطلاق بالونات الهيليوم الحارقة والطائرات الورقية التي أتت على ما زرعه الصهاينة، مما خلق لديهم ردود فعل غاضبة نتيجة للكارثة الزراعية التي أحدثها ذلك السلاح المفاجئ.

إن الهبة التي أوقدها شعبنا الفلسطيني في الداخل قد تجاوزت حدود الإجهاض والاحتواء.

إن الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني وتماسكه يكمن في تصويب الأوضاع الفلسطينية التي تحتاج إلى تأمين الحماية السياسية لها، وإلى تشكيل قيادة موحدة لها، وبلورة برنامج كفاحي لتطويرها نحو انتفاضة شعبية شاملة يكون الاستقلال هدفاً رئيسياً لها حيث لا أمن للاستيطان والاحتلال في فلسطين.

إن وضع التشرذم للفصائل لا يخدم قضيتنا، فإن كنا على مستوى القضية وعدالتها فهي تتطلب الخروج من الوضع المأزوم، فإن المرحلة الفاصلة التي يشهدها شعبنا في الداخل والخارج تتطلب الوقوف في جبهة عريضة واحدة وفاعلة يفرضها الإحساس بالمسؤولية الوطنية بعيداً عن الحسابات الفئوية، ودون ذلك تنقلب الاستخلاصات إلى عكسها تماماً وتسهل العودة إلى معزوفة المفاوضات العبثية.

إن الشعب الفلسطيني يمتلك من القوة والإرادة وروح التضحية وعناصر الإصرار ما يرغم الجميع ومنهم الأعداء على إعادة حساباتهم السياسية.

غزة لم تغرق في البحر كما تمنى لها الأعداء، من من العواصم أرقها السهر كما غزة؟ ومن من العواصم سهرت على وقع أزير الطائرات وقصف المدافع كما سهرت غزة؟ ومن من العواصم فرض التهدئة مقابل التهدئة، والتصعيد مقابل التصعيد، كما فرضته غزة.. غزة أنت أغنية للحرية وسوف نغني لك بصمت للدم والوجع الأمل.

غزة قادرة على وضع أصابعها القوية على القصبة الهوائية للصهاينة، وما أولد من تواريخ ذليلة.

العدد 1105 - 01/5/2024