»حارس« التجارة العالمية.. أين العدالة؟!

بشار المنيّر:

أعلن الرئيس ترامب الحرب على الموردين إلى الولايات المتحدة، وخاصة الصين وأوربا وروسيا، ويفرض أكبر اقتصادين في العالم، رسوماً جمركية على منتجات قيمتها الإجمالية 100 مليار دولار منذ أوائل تموز، ويجهزان للمزيد، مما يعزز التهديدات للنمو الاقتصادي العالمي، وقالت وزارة التجارة الصينية: (بغية حماية التجارة الحرة والأنظمة متعددة الأطراف والدفاع عن مصالحها المشروعة، فإن الصين ستقيم دعوى بخصوص إجراءات الرسوم تلك بموجب آلية فض النزاعات في منظمة التجارة العالمية).
لكن هل تستطيع لجنة فض النزاعات في منظمة التجارة العالمية فض النزاعات بين الدول؟، وهل يمكن لهذه المنظمة العالمية أن تمارس دورها دون الخضوع لإرادة قلعة الرأسمالية العالمي؟.
بعد جولات متعددة للدول الأعضاء وقعت اتفاقية GATT للتعريفات و التجارة (التي تعرف اختصاراً بالجات عام ،1947 بهدف تجاوز آثار ومخلفات الحرب العالمية الثانية، وإيجاد نظام للتجارة الدولية، وتشجيع التبادل التجاري بين الدول المتعددة، وكانت سورية في عداد من وقعوا على هذه الاتفاقية حينئذ، ثم أعلنت انسحابها عام 1956 بعد قبول إسرائيل في عضويتها، وكانت الجولة الثامنة لاتفاقية (الجات) في الأورغواي، قد أعلنت ولادة منظمة التجارة العالمية بموافقة 123 دولة في عام ،1995 ويمكن تلخيص المبادىء الأساسية لمنظمة التجارة العالمية بما يلي:
1 – التزام الدول بأن التعرفة الجمركية هي الوسيلة الأساسية للحماية، وأن استخدام هذه التعرفة سيتم بطريقة غير تمييزية، والتعهد بالتخلي عن الحماية مستقبلاً وتحرير التجارة.
2- التعهد بعدم التمييز بين الدول، أو بين المنتج الوطني والأجنبي.
3 – تجنب سياسة الإغراق، وعدم اللجوء إلى دعم الصادرات، وقبول مبدأ التقييد الكمي في أحوال استثنائية لحماية ميزان المدفوعات، وتقديم معاملة تفضيلية للدول النامية. (1)
يبلغ عدد أعضاء منظمة التجارة العالمية 149 دولة من بينها 11 دولة عربية، ويستغرق الانضمام للمنظمة فترة طويلة يجري خلالها تهيئة الأوضاع الاقتصادية للبلد الراغب بالانضمام للتوافق مع بنود الاتفاقيات الأساسية للمنظمة، وقد تطلّب ذلك من السعودية وعمان 12 سنة.
في كانون الثاني من عام ،1995 بدأت منظمة التجارة العالمية عملها كحارسة وراعية لانسياب السلع والخدمات بيسر وسهولة بين دول العالم، وبعد جولات متعددة من المفاوضات والاتفاقات الملزمة لجميع الأعضاء، وُضعت القوانين والنصوص التي تُلزم الأعضاء على فتح أسواقها أمام السلع المتدفقة إليها عبر تعرفة جمركية تخفض تدريجياً، وإزالة القيود الكمية عبر مفاوضات متعددة الأطراف، وجرى أيضاً توقيع الاتفاق الخاص بالقواعد التي تحكم النزاعات التجارية التي تنشأ في معرض تطبيق بنود بقية الاتفاقيات. وبحكم الحجم الهائل للتجارة الأمريكية والأوربية واليابانية، فقد سيطرت هذه الدول على سياسات منظمة التجارة العالمية بما يحقق في النهاية مصالحها الاقتصادية، رغم الخلافات التي تنشأ فيما بينها أحياناً، وبعض الحروب التجارية التي تنشب أحياناً أخرى والتي تتسبب بإشعالها الشركاتُ العملاقة، فتندفع بعد ذلك الحكومات للدفاع عن شركاتها مهدِدة بإجراءات تهدد بنسف جميع الاتفاقيات والتفاهمات.
منذ ثمانينيات القرن الماضي حذت الدول الرأسمالية الأخرى حذو الولايات المتحدة، وأصبحت مستعدة للدخول في حروب تجارية لمصلحة شركاتها الكبرى واستمرار سيطرتها على قنوات التجارة العالمية والأسواق الدولية.
إن الكثير من الشركات المتعددة الجنسية في العالم تعادل بالحجم والقوة المالية دولاً بأسرها، ومصلحتها في الاقتصاد العالمي الجديد الذي صنعته الليبرالية الجديدة تفوق مصالح دولها، وحين تصطدم مصالح الطرفين فإن الأولوية تصب في مصلحة الشركات لا في مصلحة الدول. (2)
تفصل منظمة التجارة العالمية في النزاعات بشكل سري، وقد أصدرت أحكاماً ضد دول نامية وأخرى متقدمة، لكن الشعور العام لدى مندوبي الدول المشاركة وعددها حتى الآن 139 دولة، أن هذه المنظمة لا تكيل دائماً بمكيال واحد.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، نشبت حرب الموز الكبرى عندما قرر الاتحاد الأوربي أن يمنح كوتا (حصة) تقل عن 10% لاستيراد الموز من شركة (شيكيتا ) الأمريكية المتعددة الجنسية، وذلك لحماية منتجي الموز الصغار في المستعمرات الفرنسية والبريطانية في إفريقيا والبحر الكاريبي، وهي بلاد تعتمد في بقائها على تصدير الموز، لقد أقنعت شركة (شيكيتا ) ممثلي التجارة الأمريكية أن هذا الإجراء يضر بمصالح الولايات المتحدة، إذ يؤدي إلى خسارة ثلاث شركات كبرى للفواكه (شيكيتا – دول – ديلمونت) مبلغ يعادل 520 مليون دولار سنوياً، وهكذا تقدمت الحكومة الأمريكية باحتجاج لمنظمة التجارة العالمية بالنيابة عن شركاتها، واتهمت الاتحاد الأوربي باتخاذ مسلك تحيّزي في استيراد الموز، وهددت بفرض ضريبة جديدة على تعادل 100% على عدد من المنتجات الأوربية من الخمور والقمصان الإسكتلندية والتجهيزات المنزلية الإيطالية، إذا لم تعدل النسبة المخصصة لشركة الموز الأمريكية، وفي عام 1999 اتخذت المنظمة قراراً بتعديل الحصة المخصصة لهذه الشركة، لكن الاتحاد الأوربي رفض تنفيذه، مما دفع الولايات المتحدة لفرض ضرائب انتقامية على وارداته من أوربا بلغت 191 مليون دولار. (3)
لكن السؤال الذي يتبادر للذهن هنا: هل كان باستطاعة (كارل ليندنر) مالك شركة (شيكيتا) الاعتماد على حماس المسؤولين الأمريكيين في حرب الموز، لولا المبالغ التي دفعها كتبرعات طيلة فترة المناوشات، والتي بلغت أربعة ملايين ومئتي ألف دولار للحزب الجمهوري، ومليون وأربعمئة ألف دولار للحزب الديمقراطي؟
في عام 1996 صوَّت الاتحاد الأوربي على منع تصنيع الهرمونات الاصطناعية من لحم البقر، إذ ثبُت أنها تتسبب بمرض السرطان والإقلال من خصوبة الذكور، لكن شركة الكيماويات الزراعية الأمريكية (مونسانتو) واتحاد أصحاب قطعان البقر الأمريكي، وهم بالمناسبة من متبرعي الحزبين الرئيسيين في أمريكا، مارسا الضغط على الإدارة الأمريكية لتقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية، بحجة تقلص الاستيراد من أمريكا نتيجة لقرار الاتحاد الأوربي، وقد صدر قرار من لجنة تحكيم المنظمة لصالح الأمريكيين، وعندما رفض الأوربيون تنفيذ القرار خولت منظمة التجارة الولايات المتحدة وكندا فرض عقوبات تجارية انتقامية تجاوزت (125) مليون دولار، وبشكل مفاجىء خضعت صادرات أوربية مثل عصير الفواكه والخردل وأجبان روكفورت لضرائب جمركية كبيرة.(4)
لقد أصبح واضحاً أن حكومات الشركات العملاقة تقيّم سياستها التجارية استناداً للمصلحة التي ستجلبها لصالح هذه الشركات، وبدلاً من سعي هذه الحكومات لخلق عالم أفضل لشعوبها، تسعى إلى إيجاد بيئة مثالية لعابري القارات التجاريين الذين يديرون الظهور لمساندة حكوماتهم إذا ما أرادت تحسين الوضع المادي والاجتماعي للشعوب، وكما قال (كليف آلن) نائب الرئيس التنفيذي لشركة (نورتل نيتورك) الكندية: (كوننا ولدنا هناك (في كندا) لا يعني أننا سنظل هناك، يجب ألا يشعر الكنديون بأنهم يمتلكوننا، يجب أن يظل المكان جذاباً لنا لنظل مهتمين بالبقاء فيه).
ورغم أن الدول النامية تشكل 80% من أعضاء منظمة التجارة العالمية، إلاّ أن هذه الدول تُعامل وكأنها من الدرجة الثانية، فقد استُبعِد معظم وزراء التجارة في هذه البلدان من المرحلة النهائية من مفاوضات الأورغواي عام ،1993 وتوسلوا إلى الصحفيين الذين حضروا جانباً من هذا الاجتماع لكي يخبروهم عن آخر مجريات المفاوضات!
إن ثلاثين دولة نامية من أعضاء المنظمة لا تستطيع أن تضع ممثلاً لكل منها في مقر المنظمة في جنيف لارتفاع تكاليف الإقامة!
في النهاية، هل يمكن اعتبار منظمة التجارة العالمية جهازاً لحراسة التجارة العالمية، أم أداةً لسيطرة الشركات الكبرى ودولها على التجارة الدولية؟

basharmou@gmail.com

المراجع:
1- النظام الاقتصادي الدولي المعاصر، د. حازم الببلاوي.
2 – السيطرة الصامتة، نورينا هيرتس.
3- مجلة التجارة العالمية، شباط 1999.
4- راجع صحيفة الغارديان، 30 تشرين الأول 1999.

العدد 1104 - 24/4/2024