على سيرة الإعلام.. هل لديكم هاتف ساخن؟!

عماد نداف:

 

على طاولة الأخبار في إذاعة دمشق كان يوجد هاتف أسود دون قرص، وهذا الهاتف موصول مباشرة بثلاث جهات تستطيع إشعال الضوء الأحمر في عيوننا عندما تتصل بنا عبر هذا الجهاز:

* المكتب الصحفي في القصر الجمهوري.

* وزير الإعلام.

* جهات أخرى تتصل بين موسم وآخر!

قبل النشرة الرئيسية بدقائق، يرنّ الهاتف الأسود، ويطلب منك الطرف الآخر أن تكتب الخبر الرئيسي بسرعة، فتكتبه، وتركض به في الممرات الطويلة التي تصل بين الأخبار والاستوديو، في الوقت الذي تترامى فيه شارة أخبار إذاعة دمشق ليعلن مذيع النشرة: إليكموها مفصلة من دمشق!

وفي التفاصيل نكتشف أن الخبر يشبه العنوان الذي ورد في الموجز، أي لا يوجد تفاصيل عنه ومضمونه ببساطة: استقبل وودع!

وأحياناً يرن الهاتف في أوقات أخرى، فتسمع صوتاً: مين عم يحكي يا ابني؟ فأخبره أنني أنا العبد لله السّميع المطيع، فيقول لي: من كتب الخبر الفلاني؟ فأعترف بذنبي، فيردّ: طيبْ انزلْ لعندي فوراً!!

وبين فترة وأخرى يرن الهاتف الأسود، فيرفع السماعة رئيس الفترة الإخبارية، فيراقبه المحررون الآخرون، فإذا هو يهز رأسه موافقاً على كل مايقال، ولون وجهه أحمر مثل لون الشوندر، ثم يغلق السماعة، ويظل مدهوشاً نحو يومين دون أن يخبرنا بما حصل!

طار هذا الهاتف…

اختفى بقدرة قادر، ولكني، بعد أربعين سنة في الصحافة، وجدت أن جهاز الهاتف الأسود يفرض نفسه على أفكاري وهواجسي، وقررت (بيني وبين نفسي طبعاً) أن من حقي أن أسأل: لماذا كان الهاتف الأسود دون قرص، ألا يحق للصحفي أن يتصل بأحد؟!

لا أعرف لماذا أتذكر هذه الأيام هذا الجهاز، بل وتأخذني أفكاري إلى جهاز آخر هو الهاتف الأخضر الذي كان يزين غرفة الجلوس في بيتنا، والفرق أن هذا الجهاز كان له قرص، وكان يوحي للزائرين أن بيتنا أنيق وألواننا متناسقة، لأن أمي_ رحمها الله_ رتّبت الغرفة وفقاً للون جهاز الهاتف، ولكن الغريب أن الجهاز لم يكن يرنّ أبداً!

سأحكي لكم، لماذا لم يكن يرن:

في عام 1966، انتقلنا من حي العمارة بدمشق إلى الجسر الأبيض، والجسر الأبيض في ذلك الوقت كان عبارة عن حارات شعبية متصلة من الشرق في جهة الميسات إلى الغرب فيقطعها حي الروضة وتوسعه الذي سيصل فيما بعد إلى المالكي وأبي رمانة، وفي تلك الحارات استأجرنا بيتاً واسعاً مع بحرة وغرفة ضيوف واسعة.

وهنا دب الحماس بأبي وتقدم بطلب للحصول على خط هاتفي، وصرنا ننتظر دون فائدة، إلى أن توفي في عام 1979، ولم يأت دوره بعد. ومرت سنوات أخرى ربما تكون أربع أو خمس، وتحت إلحاح الورثة وشكاويهم، حصلوا على وعد بأن يخصَّصوا بخط هاتفي شريطة الحصول على حصر إرث نظامي وتنازل من الجميع إلى أحد القاطنين في البيت، وكان بيتنا قد أصبح في مساكن برزة!

اشترت أمي جهاز التلفون الأخضر، ووزعت على الجيران زبادي من الرز بحليب تبركاً بخط الهاتف الموعود، وصار الجهاز جزءاً من إكسسوارت غرفة الجلوس، (لا يكشّ ولا ينشّ) كما يقولون في الحارات الشعبية، أي ليس فيه حرارة ، أي ميت، لا أصابكم الله بمكروه!

اليوم في بيتنا جهاز هاتف أرضي، وأربعة هواتف نقالة، وأنترفون بجانب الباب، وفي الإذاعة اختفى الهاتف الأسود، ودخلت أجهزة الحاسوب والشبكة العنكبوتية وصار عندنا مراسلون في كثير من البلدان، ولا أعرف لماذا تجرأت وأمسكت نشرة الأخبار قبل أيام، عندما أطلقوا الهوية البصرية الجديدة، فإذا بالخبر الرئيسي نفسه: استقبل وودّع! وقارنت بين العنوان في الموجز والتفاصيل، فإذا الخبر يشبه العنوان ولا تفاصيل فيه، وكأن الخبر جاءنا من الهاتف الأسود الذي لا قرص له!

العدد 1102 - 03/4/2024