في حضرة الأستاذ!

حنا مينه.. حيّ في وجدان محبّيه

د. صلاح الدين يونس:

 

في حضرتك، يا سيدي، تتأهب الكلمات وتتهيّب، وكأنهن في شغل عن أنفسهن وعن قواميس الدنيا، فهن مشغولات بعوالمك، ينتظمن في قواميسك، وقد خلعن عنهن العهدة مع الشعر والشعراء، ينتظرن اكتمال أطيافهن، وهن مفردات أخيلتك.

في حضرتك..

اختار (فيّاض) منفاه، بعد أن اختارت له الظروف (النفي)، لكنه اختار الحرية، ثم قرأ على يديك كيف تكون المعاناة، وكيف يزحم الإنسان المكافح الدنيا، وكيف يكتب اسمه بين الأقوياء، وكيف يقترن عمله بمعرفته… ثم اهتدى_ ولم يكن ضائعاً_ إلى الوطن الأم، عاد من الاغتراب بقساوة التجربة.

وفي الحضرة…

أدرك زكريا المرسلّي مهمته في الدنيا، استعاض عن أميّته بثراء الروح، وانتظم في مجتمع تنكر له ب (البطولة)، فأنشد المجتمع إليه، لكنه بعد أن غامر، فالغابة منفى، والبحر غير الغابة. وفيه تعلم من أستاذه كيف يواجه الحوت، والاضطراب، ولأنه تعلم الدنيا على يديك التمس المخرج. وتبادل رغائب الدنيا مع (رغيبة)، فأدركت المرأة السليبة بالحب طريق الحرية.

وعلى يديك

كلٌّ أدرك الانتماء بوعي جديد، بوعي من مرارة التجربة، علّمته (بقايا صور) كيف يحيا، ويكتمل من دون أن يقع في الاكتمال، وكيف تأنسنت مفردات الطبيعة، كشجرة التوت، وكيف صارت (البقايا) صوراً متكاملة من عوالم الحرمان والقهر، بعد أن وضعت معالم الحرية على الطريق.

تفاءل الفقراء، وسعدوا بولادة البدائل، وتخيل كل قارئ منهم أنه البطل الذي تنتظره الحياة، ويشهد لك (فايز الشعلة)، أنك صاحب المدرسة التي تعلم فيها هو وطبقة العمال الذين أمسكت بأيمانهم ليخطّوا الكلمات الأولى في مدرسة الحياة، فتخرج في هذه المدرسة (اسبيرو الأعور) وقد صار بصيراً بالدنيا وإن عزّ كامل البصر.

أضحى (المستنقع) ينضح بالأنقياء، واهتدى (المعذب) في المكان، والمضطهد في الزمان يحلم ب »القطاف« وكأن جنى (العهدين) دانٍ، فصار (القلعة) حيّاً دافئاً حط الزمان رحاله في هذا المكان، ومن القلاع تنهمر الحياة، وترتسم الخطا واثقة مطمئنة. ومن الزيتون كان درس الحياة في الثبات والصمود والعطاء، ولطالما شجرة الزيتون عرفت مهدها في الأرض السورية، فإن أبناء هذه الأرض تعلموها حتى صارت هي هم، ثم علموها فصارت (هم) ملئ العالم.. ومن (هي) و(هم) كانت الحرية. وفي (القلعة) تعلم فارس كيف تُضاء المصابيح، وكيف يُميز بين الألوان، وكم ألف فارس متعة القراءة والسراج أنيسه، والبصير زيته، وما ارتدّ البصر، ولا نفد الزيت. وعلى صفحات (الثلج) وهو يطرق النافذة. التقى (فياض) وهو يحمل في جوانبه ضحى الثورة، مع (خليل) العامل المناضل المكافح، وفي مدرسة خليل تعلم فياض ما لم تعلمه إياه الكتب، وفي هذا اللقاء يتواصل بين الماضي الذي عاناه المثقف الثوري وبين الحاضر الذي طرده وشرّده، وهنا أدرك القراء متعة المعرفة كيف يُدرك الكاتب الواقع، وكيف يعيد خلقه.

وفي حضرتك أيضاً…

عاود الشرق والغرب لقاءهما، ولكن ليس من موقع استعلاء الغرب بعد النجاح في التجريب والفلسفة والاقتصاد والصناعة، وليس من موقع الشرق القديم مهد الحضارات والمثالية الأفلاطونية والإسلامية والمسيحية، وإنما هو كان لقاء الجدلين: التاريخي والطبيعي، لقاء صمم دواخله فكرة التقدم التاريخي الإنساني كما شخصته الأممية الثالثة… على صفحات (الربيع والخريف) أفضى (كرم المجاهدي) بزمن البطولة الجديد. وبين يديك وقف (ديميتيريو) عاجزاً عن نداء الطبيعة البشرية، وهو (الحب) وشكا أمره، وعرض حاله المنشطرة، وكاد ينفجر من حدة التنافر بين ذاته والعالم.. فأرشدته إلى (الكمان) لتكتمل إنسانيته.. ولكن الأعراف والتقاليد في مجتمعات ما قبل الأزمنة الحديثة قتلت أحلام ديميتيريو وهي بادئة بالنمو.

 

سيّدي!

المعيش.. والمتخيل عالماك، وأنت فيهما أستاذ الكلمة، وسيد الكتابة، وعلى صفحات (المتخيل) عاش الواقع، ولكنه لم يعد يعرف نفسه كما ولدته أمه، فصار له خلق آخر، وأسماء عديدة، كان أجملها – واعذرني إن أقمت نفسي مقام غيري- الطروسي الذي حلم به كل كاتب وتمنى معرفته كل قارئ.. عبر الشواطئ إلى شعوب ما وراء البحار، وهو مسافر لا محالة إلى عوالم المحيط ليشكل مع همنغواي وميلفيل الأزمنة المفتوحة.

قبطان (المتخيل) يرسو في المرفأ الأبدي، ولكن متخيلاته تسافر في فضاء لا حدود له.

العدد 1105 - 01/5/2024