التغيير الحكومي المنتظر والحاجة إلى تغيير العقلية

د. سنان علي ديب:

 

المتابع لسيرورة العمل الحكومي من حقبة الدردرة، مروراً بالجميل، وصولاً إلى اليوم، يرى أن العقلية واحدة ولو ببعض العمليات التجميلية! وليس هكذا فقط، وإنما مُرِّرت خلال الأزمة مواضيع عجزت حكومات ما قبل الأزمة عن تمريرها، وهي كانت من منطوق وصفات البنك الدولي وجرى الالتفاف عليها، ولكن في الواقع أدت إلى تركّز استثماري مالي خطير كان مدخلاً لما بعده. بالمجمل ورغم أن السير بهذه السياسات مع تضليل بالرؤى والنتائج والأرقام لمتخذي القرار كان مسبباً، ولكن ما وجدناه من خلال تطورات مرحلية للأزمة دل على سلوك انتقامي وبرمجة مسبقة لتدمير اقتصاد أوصلته السياسات الاجتماعية الاقتصادية إلى مرحلة تنموية متطورة قاربت الاكتفاء الذاتي، مصحوباً بانعكاسات اجتماعية صلبت الشعب ووسعت الطبقة الوسطى لتشمل أغلب سكان البلاد.

وهذه الصلابة وقفت حاجزاً أمام المشروع الانقلابي التدميري، وما زالت تعطي البعث شعبية رغماً مما حاولوا لإسقاطه وتشويهه عبر الأزمة أو عبر اختراقات علنية ما قبل أزموية ومتسترة في مراحل لاحقة. وكيف لا يقف الفقراء و الكادحون معه وهو من علّمنا مجاناً بمخرجات احترمت وبسطت عطرها على أغلب دول العالم، وبصحة دائمة مجانية، وبسكن مؤمّن وبحياة لم نعرف معناها إلا بعدما سرّب النهج الذي لا لون له ولا شبيه ولا حتى الليبرالية التي تغنوا بها، وفرض تحت ستار الأزمة ومفاعيلها، حتى أغلب الشعب أصبح يضج و يصفها بحكومات التفقير بعد أن ظلت الحكومات لعقود مضت حكومة الفقراء، حتى لا نحمّل الحكومة الحالية كل شيء، فهي استمرارية لما سبق مع عدم القدرة على المناورة بتغيير العقلية لظروف الأزمة وعدم القدرة السلطوية على مواجهة الدواعش وما يبثونه من سموم لارتباطات تتعلق بالأزمة ومفاعيلها و إدارتها. ورغم ذلك كان هناك ما يدل على نشاط وحيوية، منها إعادة السكان إلى مناطق كثيرة متضررة بسرعة قصوى، وقبلها التعامل مع التدمير الممنهج للبنى التحتية وخاصة الكهرباء التي بذلت جهود استثنائية للحفاظ عليها، والحفاظ على الاقتصاد بالأهداف الكلية وسط حصار وعقوبات ومحدودية الإمكانات، ووسط حاجة لوجستية لتأمين الكوادر اللازمة للدفاع عن الوطن، ولكن الظروف التي أحاطت بالعمل الحكومي بعد التعديل الأخير أكدت وجود قاعدة للانطلاق وإعادة العافية والتعافي، ولكن منعكساتها على المواطن كانت شبه معدومة، والعقلية لم تتغير، وسط تساؤلات عن أمور ممكنة التحقيق والبعد عن التنفيذ، ووسط تصريحات لبعض الشخصيات الحكومية لا تدل على وعي أو مهابة ما يجري ولا التعلم مما جرى، وأصبح الوصف حكومة ضد الفقراء، وهو ما تجلى بتصريحات نائب رئيس جامعة دمشق: (من لا يملك مال بلا تعليم) رداً على تساؤلات الطلاب حول فرض إجازة إدارية غير مأجورة لطلاب الدراسات العليا بشقيه الماجستير و الدكتوراه! وكان رد الوزير غير مقنع، فهو أعتبر الإجازة مأجورة وهذا غير صحيح، وهو دمج بين الماجستير والدكتوراه، والدكتوراه لا تحتاج إلى دوام، وحتى الموفدون يعتبرون (تعليم موازي) ونفقات كبيرة، وما حصل سابقاً للتعليم المفتوح وتسعيرة المواد وللمستنفذين باعتبارهم تعليم موازي إن أرادوا الاستمرار. وما نسمعه من فساد يعم مسابقاتها كأعضاء هيئة تدريسية وموظفين في ظل حاجة البلد إلى كوادر لتعويض تسرب الآلاف، وكانت معايير المسابقة بعقلية الإقصاء والمحاصصات والفساد. أتينا من الخارج وكلنا تفاؤل أن المرحلة القادمة هي تأمين جودة التعليم نتيجة ما وصلنا إليه من بنية تحتية وتطور لافت، وفوجئنا بتراجع قاتل وبالسير نحو ترويج للخاص الذي لسنا ضده ولكن ضمن نطاق المنافسة وليس الإقصاء للعام ومنع الفقراء من دخوله والتغاضي عن الترهل فيه. وكذلك ما يحصل في قطاع الصحة ورغم الاستنفارات في بدء الأزمة وزيادة الضغط على الخدمات والقدرة على استيعاب أكثرها، ورغم وجود المشافي والمراكز وما بنته الدولة من صروح على مستوى ليكون العلاج المدفوع هو الأساس، أصبح المواطن أمام موت محتوم لعدم القدرة على العلاج ولانعدام إنسانية لدى كثير من الكوادر، وسط التغاضي عن التفرغ الذي يعطي كل ذي حق حقه، ورغم ذلك ما زالت أغلب مشافي القطاع العام أكثر خدمة وجودة من الخاص الذي جعل أغلب الأطباء والكوادر سماسرة له على حساب المواطن. ونأتي إلى تصريح وزير المالية بأنه لا يوجد فقراء، وبنظره كل سورية قطاع خاص حرفي أغلبه عوض النقص أو فاسدون زادوا الأتاوة، ونسي أن ثقل البلد موظفون وعساكر شرفاء قدموا أرواحهم وينتظرون، ونازحون بين أهلهم بعضهم أصيب بحالات مرضية صعبة نتيجة عدم القدرة على تناول أكثر من وجبة في اليوم. والمتوسط الواجب تحصيله شهرياً لأسرة مؤلفة من خمسة أشخاص ما بين 250 و 270 ألف ليرة شهرياً، بينما متوسط أجور لا يتجاوز 26 ألف ليرة، وفي ظل سياسة مالية مررت الكثير من الرسوم و الضرائب على المواطنين وفاقت قدرتهم، والوزير ينفي وجود جوع في سورية، ولا نعرف ما تعريف الجوع بالنسبة له. وفي ظل رفع أسعار الوقود والطاقة ما زالت وزارة حماية المستهلك حركة بلا بركة، وفي ظل قيود ممنوع تجاوزها تتمثل بمنع التدخل الإيجابي، وإنما يجب السير مع أسعار السوق وعدم الاستيراد المباشر وفي ظل عقوبات نفعية وليست ردعية، وفي ظل مضاربات حلقت بأسعار البناء والإيجارات للسقف. في ظل تفشي فساد غير معقول تجاوز المال واللعب والتزوير ليصيب الإنسان، وتفشي المخدرات والحشيش وانتشار علني وقح للدعارة. ويظل موضوع الفساد تنظيرياً عند الحكومة، ولن يكون الحل إلا بحل وطني يحيط به عبر قوانين رادعة وإصلاحات إدارية وسياسية وثقافية وردع لما حصل خلال الأزمة. والعمل لإيجاد حلول لما مضى قبل الأزمة. ولمن لا يعرف موضوع الفساد معولم ومحمي ومنظم ومواجهته مستحيلة، وكانت سبباً بزيادة فيضان الدم وهو ما لا يجرؤ أحد على الاعتراف به. الإحاطة بالفساد بحاجة إلى عمل دؤوب ووزارات متخصصة تعمل وفق برنامج إصلاحي وتحاسب عليه وتملك مختلف الصلاحيات عبر سياسة تعيينات تعتمد الكفاءة والمسؤولية.

التشخيص سهل بكل الأماكن ولكن العلاج المناسب هو الأصعب، وهنا يخطر في بالنا وزارة التنمية الإدارية وكذلك الشؤون الاجتماعية. إننا بحاجة إلى إعادة بناء الإنسان السوري وتحصينه وطنياً عبر إجراءات اقتصادية واجتماعية، وهذا بحاجة إلى جهود جبارة وفرض القوانين والأنظمة، وبحاجة إلى إصلاح شامل بمؤسسات التنشئة بدءاً من توجيه الأسرة مروراً بالتعليم الذي يجب أن تأخذ القيم الأخلاقية والانضباطية فيه الدور الأكبر وصولاً إلى المؤسسة الدينية لتعيد الاعتبار للقيم الإنسانية التي نادت بها الأديان. ويتم ذلك عبر اختيارات صحيحة لرجال الدين وعبر الخطب البناءة الجامعة ولا ننسى الدور الأهم للإعلام، إن تضافرت الجهود فالأمور ليست معقدة وإنما بحاجة إلى نوايا وإرادة ومتوفرة في ظل وجود حكماء عقلاء أداروا أصعب أزمة ذات نتائج كارثية على البشر والحجر. إن نشاط وسلوكيات رئيس الحكومة دلت على نشاط وحركة راهن كثير من السوريين عليها، ونتمنى أن تستمر بما يخدم الوطن والمواطن، ولكن المردود المباشر لأغلب الوزارات على المواطن مفقود، فأي نهج لا ينعكس على تحسين مستوى معيشة المواطن وتحسين جودة الخدمات وإعادة المنصب إلى مكان لخدمة المواطن وليس لاغتناء من يسكنه، وصولاً إلى الإحاطة بالفساد المتزايد والمعفن، فسيكون الأمر حركة بلا بركة، وكل هذه الأمور ما لم تنعكس على سياسات اقتصادية تعيد لليرة سعرها الطبيعي، وتنعكس على سعر المحروقات وبالتالي تعيد عجلة الإنتاج وإعادة البناء، فلن توصلنا إلى بر الأمان واستمرارية تحصين المجتمع واستمرارية دعمه وبكل قوة للمؤسسة العسكرية الضامن الحقيقي لوحدة الأرض والدم وحماية العرض، وللوصول إلى بر الأمان لا بد من سياسة تعيينات جديدة حتى للوزراء تقوم على الكفاءة والمهنية والتاريخية الوطنية ونزاهة السلوك ولا تعتمد على تغيير القبعات.

إن الصراع الحقيقي في سورية هو بين دواعش الداخل من قوى الفساد، والدور الأعظم لدولة المؤسسات، وإن تفاؤلنا وثقتنا بالحكماء العقلاء كانت من خلال تنشئتهم المؤسسية وسلوكهم الجديد القويم. قلنا سابقاً ونقول إننا وجدنا بسلوككم لحل الأزمة نغمة جديدة قد تطرب الشعب والوطن، ونتمنى أن تستمر وبنفس أقوى يقوي المؤسسات ويحيط بالفساد ويحسّن مستوى المعيشة، بعقل الفريق الذي يتولى إدارته والتنسيق بينه وتكريس العقل الجماعي فيه.

وأخيراً إن لم تعد للمؤسسات فعاليتها وقوتها وإن لم تحدد صلاحيتها فلن نصل إلى بر الأمان.

العدد 1105 - 01/5/2024