التنسيق الأمريكي ــ التركي وحدود فعل أنقرة

تؤشر الزيارات الأمريكية – التركية المتبادلة، وكذلك التصريحات المتناغمة، إلى رفع وتيرة التنسيق بين البلدين تجاه الأحداث الجارية في المنطقة، وبخاصة الأزمة السورية. وإذ يؤكد ذلك المستوى الذي وصلت إليه العلاقات الثنائية، فإنه يظهر طبيعة هذه العلاقة التي تتجاوز الأحداث السورية والإقليمية، وتالياً الموجّه والأداة فيها.

فقد اختطّتْ حكومة طيب رجب أردوغان منذ بدء الأزمة السورية، موقفاً منسجماً مع التوجهات الأمريكية، ومثّلت رأس الحربة لهذا التوجه في المنطقة، وكيفية تعامل دولها مع الأزمة السورية، خلافاً لمواقف دول الجوار الأخرى العلنية والرسمية، وصولاً إلى تدخلها المباشر في الشؤون الداخلية السورية، وتوفيرها قاعدة الارتكاز اللوجستية لأطراف في المعارضة المسلحة، وقاعدة خلفية للمجموعات المسلحة وما يسمى بـ”الجيش الحر”، واحتضنت وماتزال قيادات المعارضة الخارجية واجتماعاتها ومؤتمراتها، ومخيمات “اللاجئين” السوريين “غير المعروف عددهم دولياً وظروف معيشتهم، وحقيقة مواقفهم من هذا اللجوء المؤقت”، واستخدام تركيا لهم ورقة ضغط في سياق التعاطي مع الأزمة السورية، وفقاً لارتفاع وتيرة الضغط الخارجي أو هبوطه.

وأعلنت تركيا موقفها مبكراً من الأزمة السورية المتناقض مع مواثيق الأمم المتحدة، كذلك المعاهدات الدولية ومبادئ حسن الجوار، فضلاً عن انعكاساته على العلاقات التركية- السورية ما قبل الأحداث في سورية. ولم تضحّ تركيا بسياسة “تصفير المشاكل” والعلاقات الخاصة مع جوارها، وخاصة سورية، وما تمثله من إمكانات ومن موقع جيوبوليتيكي هام لتركيا إلى البلدان العربية دون ثمن من الإدارة الأمريكية عناوينه الإقرار بالدور التركي الإقليمي، والموقف من الصراع مع حزب العمال الكردستاني، ومسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وهو ما يشير إليه العديد من التصريحات الأمريكية الرسمية.

كذلك تصريحات العديد من القادة الأوربيين في هذا السياق، وإن كانت أقل وضوحاً وعلانية، ومثلت المواقف التركية “النشاز” حول مسائل “مناطق الحظر الجوي في شمال سورية، وإقامة مناطق عازلة، وممرات آمنة. إلخ”، صيغاً تنسجم وتتوافق مع التوجهات الأمريكية “الغربية” في ضغطها على سورية. وهذا ما أكدته التصريحات والمواقف التركية والأمريكية و”الغربية” المتعاقبة أيضاً.

وإن بات هذا الموقف على سلبياته توجهاً تركياً تقليدياً سلبياً، لا يخدم أيضاً المصالح الاستراتيجية التركية وسياسة “تصفير المشاكل”، فإن الأسابيع القليلة الماضية أضافت العديد من المواقف والسياسات التي  تؤكد هذا التوجه، رغم اتساع المعارضة التركية البرلمانية والشعبية له، وتعقيدات الحالة الداخلية التركية “ديمغرافياً، مؤسساتياً، برلمانياً، شعبياً.. إلخ”. وبرز ذلك بحدة في الأسابيع القليلة الماضية من خلال زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى أنقرة، وإعلانها ونظيرها التركي أحمد داود أوغلو عن بحث ودراسة سبل التنسيق المشترك، وبخاصة حول الأزمة السورية وتداعياتها، وكيفية التعاطي العملي معها. كذلك اختتام زيارة الوفد الأمريكي الأمني- الاستخباراتي إلى تركيا في نهاية الأسبوع الماضي، والإعلان عن البحث ونظيره التركي في إمكان تكريس المناطق العازلة والآمنة ومناطق الحظر الجوي وتوسيع نطاق التعاون الاستخباراتي بين البلدين.

وفي الوقت الذي يتواصل فيه التعاون والتنسيق الأمريكي – التركي في مجالاته المختلفة حول المواقف من الأزمة السورية، تعمل تركيا على تعزيز تعاونها مع العديد من دول الاتحاد الأوربي، وخاصة السياسية والاستخباراتية منها.. وهذا ما أكدته التسريبات الصحفية لكبريات الجرائد البريطانية والأمريكية الأسبوع الماضي، حول التعاون الاستخباراتي الألماني “من خلال سفنها العسكرية المتمركزة في شرق البحر الأبيض المتوسط”، وإرسال المعلومات إلى الأجهزة الاستخباراتية التركية، ومنها إلى المجموعات العسكرية السورية المعارضة، كذلك المعلومات التجسسية من القواعد العسكرية البريطانية في قبرص، وتجميع هذه المعلومات لدى الأجهزة التركية المختصة، وتوظيفها لصالح نشاطات المجموعات العسكرية المعارضة وعملياتها الإرهابية.

وإذ تسعى تركيا لتلبية التوجهات الأمريكية من جهة لاعتبارات تركية، بوصفها أداة تمتاز عن غيرها من دول المنطقة بموقعها الجغرافي ومقدراتها، فإنها تحاول مواصلة هذا التنسيق مع العديد من دول الاتحاد الأوربي، وتقدّم نفسها لاعباً إقليمياً هاماً يفترض بالاتحاد الأوربي أخذه بالحسبان من جهة أخرى. وفي المحصلة تقدّم نفسها حلقة وصل بين التوجهات الغربية والأمريكية المتناغمة في كيفية التعاطي مع الأزمة السورية وسبل حلها. إلا أن هذا الموقف “البراغماتي” التركي يتعارض مع الجهود “الدولية” ومهمات المبعوثين العرب والدوليين وخطة كوفي عنان وخلفه الأخضر الإبراهيمي. ويتعارض كذلك مع وثيقة جنيف التي وقعتها “مجموعة الاتصال حول سورية” في الأول من شهر تموز الماضي، ومع مجموع التوجهات “الدولية” المتوافق عليها في مجلس الأمن الدولي.

ويزداد هذا الموقف وهذا التوجه التركي انكشافاً في ظل الانقسام الدولي الحاصل بين التوجه المطالب بحل سياسي للأزمة السورية، من خلال الحوار الوطني السوري- السوري بقيادة سورية الذي تتبناه روسيا والصين ومصر وإيران والعراق ومجموعتا بريكس وألبا، وبين التوجه الساعي إلى التدخل الخارجي والانحياز لأطراف في “المعارضة” وبخاصة الخارجية منها والمرتبطة مع المجموعات المسلحة، الذي تتبناه واشنطن وباريس ولندن وأنقرة.

كما يزداد الرهان على اتساع الموقف الدولي المؤيد للحل السياسي، وصمود الحالة السورية من جهة، واستمرار انقسام قوى المعارضة بتشكيلاتها واتضاح حقيقة سياسات أطرافها وتوجهاتها وتحالفاتها من جهة ثانية.

أما الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة.. وسواها فهي مسائل تحتاج إلى تدقيق سياسي، وخاصة في البلدان التي تتخذ موقفاً سلبياً من الأزمة السورية الإقليمية والدولية، وإن إمكان القيام بخطوة عملية نحو تنفيذ مخطط المناطق العازلة والممرات الآمنة التي تمثل فيها تركيا مجرد بيدق في لوحة شطرنج، لا أكثر ولا أقل سيفتح على سورية والمنطقة أخطاراً يصعب تقدير نتائجها الكارثية.

العدد 1104 - 24/4/2024