قمة بروكسل… أزمات اقتصادية ودور سياسي «متواضع»!

اختتم زعماء الاتحاد الأوربي في مطلع الأسبوع الجاري واحدة من أصعب قممهم الاتحادية، لكثرة الإشكاليات التي تعانيها أوربا (دولاً واتحاداً) على الصعد كافة. إذ برزت التباينات والخلافات في معالجة القضايا الاقتصادية – الاجتماعية التي تواجهها أوربا، على أهميتها، وتالياً دورها الاقتصادي الدولي (صعود النزعات القومية والأثنية، مروراً بالدور والهوية السياسية الأوربية الخارجية المفقودة). ورغم دورية القمم الأوربية، ومحاولتها ملامسة المشاكل الأوربية أولاً، وصولاً إلى التوافق على خطوات لحلها، فإن ازدياد الصعوبات الوطنية والقارية قد ألقت بظلالها على قمة بروكسل الأخيرة.

فعلى الرغم من تبعات الأزمة المالية الأمريكية، ثم الدولية عامَيْ 2008 و 2009 على أوربا، وصعوبات منطقة اليورو (منطقة العملة الأوربية الموحدة)، ومحاولات التوافق حولها في قمة حزيران الماضي، وتأجيل البحث في نقاط الخلاف حول الحلول المقترحة، فإن هذه القمة أظهرت ضخامة حجم الإشكاليات الوطنية والاتحادية الأوربية وتبعاتها على أوربا ومنها:

 

اقتصادياً

* تفاقم الأزمات الاقتصادية الوطنية في عدد من دول الاتحاد الأوربي (إسبانيا غير المستقرة، اليونان المضطربة، البرتغال وصعوباتها، إيطاليا وأزمتها) وعدم قدرة هذه الدول وغيرها على حل إشكالياتها الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية على الصعيد الوطني، ومعاناتها في الوقت نفسه من مسألتَيْ الشروط الإنقاذية المالية الاتحادية من جهة، وعدم قدرة هذه الحكومات على تمرير برامج التقشف القاسية التي تمس أساساً الفئات الشعبية والشغيلة، الأكثر تضرراً من هذه البرامج وتداعياتها من جهة ثانية، فضلاً عن الشكوك المتزايدة حول نجاعة هذه الحلول الفوقية- الإرادوية.

* آثار التفاوت الاقتصادي القائم بين دول الاتحاد الأوربي، وبضمنها منطقة اليورو، على التوجهات الإنقاذية الاتحادية والوطنية الأوربية، وتالياً كيفية التوافق على معالجة أوربية (اتحاداً ودولاً) للخروج من الأزمة القائمة، وتجلياتها الفاقعة منذ سنوات، إضافة إلى الشكوك الوطنية والاتحادية الأوربية المتزايدة حول سبل إنقاذ أوربا من أزماتها وتبعاتها، وصولاً إلى مصير منطقة اليورو ودولها، واحتمال انفراط عقدها، وبالتالي انفراط المشروع الأوربي الاتحادي عموماً بوصفه قطباً اقتصادياً واجتماعياً في الحد الأدنى.

* اتساع دائرة هذه الأزمة المالية – الاقتصادية، من الدول ذات الاقتصادات الأقل قدرة، إلى الدول الأكثر قدرة (فرنسا، بريطانيا)، وصولاً إلى تحذيرات المصرف المركزي الألماني وخبرائه من تبعات هذه الأزمة على الاقتصاد الألماني، الأقوى أوربياً، وازدياد الأصوات المطالبة بـ (كل دولة تدبر حالها).

* ازدياد حدة الأزمة الأوربية في سياق الأزمة المالية العالمية، والتراجع المتزايد في وتيرة نموها الاقتصادي، وعدم قدرة دول الاقتصادات القوية الرأسمالية على إيجاد حلول لها (مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، مجموعة العشرين الدولية). في الوقت الذي تشهد فيه دول الاقتصادات الناشئة وبخاصة (مجموعة بريكس) تقدماً ونهوضاً في برامجها التنموية.

وقد أدت هذه العوامل إلى بروز الخلاف في قمة بروكسل بين قاطرتَيْ أوربا ألمانيا وفرنسا، إذ تطرح الأولى وضع الموازنات الأوربية تحت رقابة المفوضية الأوربية (أي هيكلة منطقة اليورو أولاً)، وإعطاء سلطة اقتصادية- مالية أكبر للمفوضية. وتطرح الثانية أهمية الحفاظ على الموازنة الوطنية ودورها، والإصرار على إنشاء الاتحاد المصرفي الأوربي في أسرع وقت ممكن.

ومنذ التوافق على اللبنات الأولى للتنسيق الأوربي (معاهدة إنشاء المجموعات الاقتصادية الأوربية عام 1957 في روما)، ثم التوقيع على معاهدة (ماستريخت) الاتحادية عام 1992 وإقامة الاتحاد الأوربي، ثم توسيعه شرقاً لاعتبارات سياسية أساساً، برز العديد من القضايا الإثنية – القومية في دول شرق أورباـ التي قُسّم بعضها بقرار أوربي- أمريكي (يوغسلافيا مثلاً)، وتعززت النزعة القومية لدى عدد آخر منها. إلا أن التفاعلات في السنوات الأخيرة وهي نتيجة تراكمية تاريخية، تشير إلى عدم قدرة الاتحاد الأوربي على حلّ الصعوبات القومية – الإثنية في دوله الجديدة (دول شرق أوربا)، وبقاء التباينات- الخلافات في العديد من دول الاتحاد الجديدة- القديمة، حول الحقوق والواجبات الوطنية والأوربية الاتحادية، وانعكساتها على طبيعة العلاقات الداخلية الأوربية.

* اتساع نطاق النزعات والحركات الاستقلالية أو (الانفصالية) في العديد من دول أوربا (القديمة)، الكبرى والأكثر نفوذاً على صعيد الاتحاد الأوربي، بدءاً من ازدياد دور رابطة الشمال الانفصالية في إيطاليا (شكلت أحد أطراف حكومة برلسكوني الأخيرة) إلى بقاء إشكالية إقليم كاتالونيا في إسبانيا، مروراً بنتائج الانتخابات المحلية الأخيرة في اسكتلندا، والتوافق بين رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، والزعيم القومي الاسكتلندي إليكس سالموند على اتفاق يعطي الشعب الاسكتلندي حق إجراء استفتاء على الاستقلال في عام 2014 (يجمع التاج البريطاني اسكتلندا وإنكلترا منذ عام ،1603 ويحكمهما برلمان موحد منذ عام 1707)! وتؤشر الاستطلاعات إلى تأييد نحو 40% من الاسكتلنديين الاستقلال (تملك استكنلدا رموز الدولة: العلم، النظام القضائي، الهوية الوطنية)، كذلك الحالة الإثنية العرقية في العديد من الدول الأوربية الأخرى.

* ازدياد دور الأحزاب والقوى اليمينية والقومية المتطرفة في العديد من دول الاتحاد الأوربي تجاه شغيلة دول أوربا الأقل تطوراً من جهة، وتجاه قضايا الهجرة من الدول النامية من جهة ثانية، وصولاً إلى طرح شعارات وبرامج (أوربا للأوربيين)، وعدم أسلمة أوربا، ومخاطر هذه التوجهات اجتماعياً وسياسياً بعد عقود طويلة على مشروع الاتحاد الأوربي.

وعلى الرغم من تعاطي الكثير من الأوربيين والدول الكبرى الأخرى، والعديد من الروابط والتكتلات مع أوربا بوصفها مشروع قطب اقتصادي، وتالياً سياسي، سينخرط عاجلاً أم آجلاً، وانسجاماً مع المصالح الأوربية أولاً، في قيام نظام التعددية القطبية، والخلاص من المعاناة الدولية ومن نظام الأحادية الأمريكية. وفي هذا مصلحة أوربية أيضاً، فإن أوربا لم تتخذ مواقف (متوازنة) جادة وفعلية ومؤثرة في التعامل مع الإشكاليات المناطقية والإقليمية والدولية التي يعانيها عالمنا، والبارز منها حتى تاريخه:

– استمرار اللاتوازن في السياسة والتوجه الأوربي في التعاطي مع  الصراع العربي- الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، وعدم اتخاذ أوربا (اتحاداً ودولاً) أية خطوات عملية ضاغطة على إسرائيل بهدف تنفيذ القرارات الدولية التي صوّتت أوربا لصالحها.

– الاكتفاء بتسجيل (الانتقادات) الأوربية المتتابعة ضد سياسات إسرائيل العدائية واللاسامية والاستيطانية والتهويدية، ورفض تنفيذ القرارات الدولية (المتوازنة) (وهي ليست بالضرورة عادلة).. وهذه سياسة أثبتت عقمها وعدم نجاعتها (ونضيف من جانبنا أن الشعب الفلسطيني قد ملّ هذه السياسة)، وربما اقتناع قادة أوربا بأنها انتقادات الهدف منها تسجيل مواقف فقط. وهذا ما سبب ولايزال تراجع المصداقية الأوربية لدى العرب وتراجع دورها الراهن والمستقبلي القريب.

– الإجراءات (الأوربية) السريعة والمتتابعة في التعاطي مع الأزمة السورية، وتجسيد الانتقائية، وممارسة سياسة الكيل بمكيالين في المنطقة ذاتها، وانعكاساتها على توجهات وسياسات وتحالفات سورية القادمة. وعلى الموقف الشعبي السوري والعربي من هذه التوجهات السلبية الأوربية التي تمس الشعب السوري أولاً.

– الموقف غير المتوازن في التعامل مع الملف النووي السلمي الإيراني، ومصالح أوربا أولاً، واستمرار سياسة العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب على إيران، وآثارها السلبية على الشعب الإيراني أساساً، وليس على برنامج إيران النووي وحده، وما تطرحه هذه الازدواجية من ملاحظات حول التوازن المفترض لقطب اقتصادي وقزم سياسي.

– الارتهان للسياسة الأمريكية، أو عدم التعارض معها في الحد الأدنى في معالجة الإشكاليات التي يواجهها عالمنا، وبقاء الدور الأوربي مشلولاً، وبخاصة منذ انتفاء الثنائية القطبية (السوفييتية – الأمريكية).

هذه المسائل وغيرها التي شغلت مواقع متباينة، حسب أوّلياتها راهناً، في جدول أعمال قمة بروكسل الأخيرة من الاقتصاد إلى الأوضاع الاجتماعية – الإثنية، مروراً بالسياسة الخارجية، أظهرت في الوقت نفسه الحالة الأوربية الراهنة التي تؤكد التطورات والتفاعلات فشلها، وبالتالي ضرورة مراجعتها وتقييمها أوربياً أولاً، وبخاصة بعيد اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد- روسيا الأخير، والتشدد المبدئي الروسي و(التباينات) الأوّلية الأوربية على أهميتها.

العدد 1104 - 24/4/2024