الفلسطينيون بحاجة إلى إعادة بناء مشروعهم الوطني

بعد حل الكنيست الإسرائيلي الـ 18 وتقديم موعد الانتخابات العامة في إسرائيل يكون تحالف أقصى اليمين الصهيوني قد قضى تقريباً أربع سنوات عجاف في الحكم خضع فيها الفلسطينيون أصحاب الأرض الأصليين في إسرائيل لأبشع الممارسات العنصرية، ودفعتهم للانتقال من التفتيش عن حلول لقضاياهم داخل الإطار الإسرائيلي، إلى التفتيش عن حلول لها خارج هذا الإطار وخارج المواطنة الإسرائيلية معاً. فالأمل بالمواطنة الكاملة داخل المجتمع الإسرائيلي على قاعدة أمة مواطنين متساوين قد تبدد مع صعود اليمين الصهيوني وتغوُّله في سياسة التطهير العرقي، الأمر الذي فاقم النزعات العنصرية ضد الفلسطينيين في وطنهم المحتل.

في مقابل ذلك اشتدت لدى بعض القوى والتيارات السياسية الفلسطينية فكرة مقاطعة الانتخابات البرلمانية والتفتيش عن حلول لمشكلات فلسطينيي الـ 48 خارج النضال البرلمان.ي ومع أن المجادلات المتشعبة في الوسط الفلسطيني كانت تشدد على ارتباط فلسطينيي الـ 48 بالقضية الفلسطينية الأساسية، لأنهم في خاتمة المطاف جزء من الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده إلا أن هؤلاء ظلوا يشعرون بأنهم مهمشون على مستوى الحركة الوطنية الفلسطينية التي أغفلت إدراجهم في المشروع السياسي التسووي الذي تبلور في أوائل تسعينيات القرن الماضي وأطلق عليه (اتفاق أوسلو).

 

فلسطينيو الـ   48 ومآل التسوية السياسية

يعدُّ توقيع اتفاق أوسلو في أيلول1993 بين (م.ت.ف) وإسرائيل والاعتراف المتبادل بينهما الحدث الإقليمي الأبرز في تأثيره على فلسطينيي الـ ،48 وذلك على مستويات هي:

– العلاقة مع الدولة.

– الخطاب السياسي.

– العمل السياسي.

وقد تزامن توقيع هذا الاتفاق مع تحولات عالمية كبيرة أثرت في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، وعلى رأسها العولمة ومع التحولات السياسية والاقتصادية العالمية التي رافقت ذلك  في هذه المرحلة  بعد اتفاق أوسلو ظهر خطاب سياسي يربط بين المكانة المدنية من جهة وبين جوهر الدولة وهويتها من جهة أخرى. وجرى التقليل من الربط بين المكانة المدنية وبين حل القضية الوطنية، كما كان الأمر في سبعينيات القرن الماضي. وقد ساهمت تطورات سياسية خارجية وداخلية كثيرة في التأثير على الخطاب السياسي للفلسطينيين داخل إسرائيل خاصة، وخارجها عامة، الأمر الذي يشير إلى أن فلسطينيي الـ 48 غير مقطوعين لا عن التحولات السياسية ولا حتى الفكرية والأيديولوجية في العالم الخارجي.

بعد فشل (العملية السلمية) وسقوط مرحلة أوسلو توالت الأفكار بشأن كيفية التعامل مع مستقبل القضية الفلسطينية. فعلى الرغم من أن قيادة  (م.ت.ف) والسلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله لاتزالان تصران على المفاوضات لإنهاء احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، فإن إسرائيل انتقلت رسمياً من مرحلة حل الصراع إلى مرحلة إدارية بما يتلاءم ومصلحتها. بينما تعالت أصوات فلسطينية وعربية وعالمية تطالب بإعادة النظر  بجدوى حل الدولتين في ظل سياسة الرفض والتعنت الإسرائيلي، وتطالب بإقامة دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين التاريخية.

ومع أن الأصوات الفلسطينية انتبهت بصورة عامة إلى أهمية ومكانة فلسطينيي الـ48 وإلى طروحهم فيما يتعلق بهذا الحل، إلا أنها لم تتعمق في فهم أهمية هؤلاء الفلسطينيين في هذا المضمار، على الرغم من أنه بات واضحاً أن هذا الحل يرتبط جذرياً بالشعب الفلسطيني عامة وبالفلسطينيين داخل إسرائيل وبرامجهم المستقبلية ونجاحاتهم في هذا المجال خاصة. ذلك بأنهم الجماعة المجتمعية التي تحاول تجديد المشروع الوطني المستقبلي.

 

التصور المستقبلي للمشروع الوطني الفلسطيني العام

منذ استشهاد زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات وصلت هذه الحركة إلى حالة من فقدان القدرة على المبادرة، واقتربت من التفكك، كما نضجت الأوضاع الداخلية والخارجية التي أدت إلى تراجعها.

وينعكس ذلك في عدد من المؤشرات، أبرزها:

1- داخلياً: بلغت الحركة الوطنية مرحة الصدام المدمر، فظهور حركة حماس (كبديل) عن (م.ت.ف) وتبنّي حماس برنامجاً يستند إلى معايير سياسية وفكرية واجتماعية تختلف عن معايير (م.ت.ف)، أدى إلى تفاقم النزاع بين مؤيديي (م.ت.ف) وتيارها، وبين مؤيديي (حماس) وتيارها، الأمر الذي تسبب بشلّ النظام السياسي الفلسطيني، وبإحداث استقطاب فتت الحركة الوطنية من الداخل.

لم تحقق الحركة الوطنية الفلسطينية هدفاً واحداً من الأهداف الكبرى التي حددتها لنفسها خلال العقود الماضية، وتحديداً عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتحقيق السلام العادل والمستقل .

2- خارجياً: تراجعت مكانة الحركة الوطنية الفلسطينية على الصعيد القومي والأممي.. ولم تأت القوى المتضادة، لا الصغيرة ولا الكبيرة، بأي جديد لمعالجة الوضع القائم، أو التحضير للمستقبل. ولا تزال (م.ت.ف) تصر على (حل الدولتين)، بينما تراوح (حماس) بين (الخيار الإسلامي) من جهة، وبين استعدادها للدخول في (حل الدولتين) من خلال بوابة التهدئة مع إسرائيل من جهة أخرى. وعلى الأرض نشأ كيانان فلسطينيان منفصلان، واحد في الضفة، والآخر في غزة، وكل ذلك تحت سقف السيطرة الإسرائيلية المتحكمة في الغلاف السياسي والاقتصادي والأمني لهذين الكيانيين.

طبعاً، تتحمل الأحزاب والفصائل والقوى الفاعلة في المجتمع الفلسطيني مسؤولية عدم القدرة على استنباط آليات عمل ونضال من شأنها تغيير هذا الواقع المؤلم.

ومن المؤكد أن فشل القيادة الفلسطينية في تطوير العمل السياسي والنضالي الموحد والمشترك، هو أحد أسباب هذا الوضع القائم، وبالتالي غياب العمل القومي والأممي الواضح من أجل تجنيد التضامن والتأييد والدعم لنضال الشعب وتضحياته.. وإذا أخذنا في الحسبان المحددات التي تحكم إمكانات التغيير في المجتمع المنقسم ومراحل هذا التغيير، فلا بد من الإشارة إلى أن نجاح الشعب الفلسطيني في نضاله الباسل يتعلق بشرطين: واحد أساسي وآخر مكمل، ولا بديل عنهما، وهما: تنظيم الشعب الفلسطيني ووحدة مكوناته السياسية في الداخل والخارج بوصفه كتلة مجتمعية قومية ذات أهداف موحدة، واستخدام الوسائل المشروعة والمدروسة لتعظيم إنجازاته وطموحاته، عبر المحافظة على التعددية والحوار الداخلي المفتوح.

ويمكن اعتبار تعبئة ووحدة الشعب هي المهمة الأساسية الراهنة للقيادة الفلسطينية في الداخل والخارج.

وعندما يستعيد الشعب وحدته ويجدد وسائل مقاومته، عندئذ فقط يمكنه السير على الدرب الصحيح من أجل نجاح المشروع الوطني وانتصاره والتقدم نحو الأهداف المشروعة لشعب أصيل في وطنه المحرر والمستقل.

أما الشرط المكمل لانتصار المشروع الوطني الفلسطيني ومواجهة إسرائيل العنصرية والعدوانية، فهو إحداث التغييرات الجذرية في بنية الحركة الوطنية. ونقترح هنا أن يتم الشروع في استخدام مصطلح (التغيير يأتي من الداخل بداية).

لم يعد صائباً مواصلة عملية التفاوض مع العدو الإسرائيلي، بينما التوسع الاستيطاني قائم على قدم وساق، لأن في هذا خداعاً للشعب أولاً، وخداعاً للأشقاء العرب والعالم ثانياً، كما أنه لم يعد ممكناً الاستمرار في توهم وجودٍ فعلي لسلطتين أو حكومتين، واحدة في الضفة والأخرى في غزة، لكن من دون صلاحيات فعلية. فالحل والربط ما زال بيد إسرائيل التي تسيطر على مختلف مناحي الحياة الرئيسية، علاوة على ذلك، لم يعد مبرراً استمرار التنسيق الأمني مع المحتل في ظل مواصلة إقامة البؤر الاستيطانية، والحواجز العسكرية، وفرض الحصار، واعتقال الآلاف من المناضلين الفلسطينيين.

إن استئناف المفاوضات يستدعي الاتفاق على استراتيجية للتفاوض والمقاومة في آن معاً، تمنح دوراً لكل أطياف المجتمع، لكن هذا الأمر لا يعني اختزال هذه الاستراتيجية بفصيل واحد بل يستدعي مشاركة الجميع.

فالاتفاق على استراتيجية تجمع بين التفاوض والمقاومة، وبما يفتح الآفاق لحمايتها من تهمة الارتهان لقوى خارجية لها أجندتها الخاصة، ومن أن تستخدم ذريعة لتبرير الانقسام والاستقطاب الداخلي. وبما يحمي الشعب من فبركة المزيد من الأجهزة الأمنية القامعة للحريات والتعددية السياسية والفكرية والاقتصادية والثقافية، وذلك باسم المقاومة، هو الأساس للخروج من المأزق، وإعادة بناء المشروع الوطني الجامع.

العدد 1102 - 03/4/2024