مبدأ المحاسبة والمساءلة

أثناء المناقشات مع الكثيرين لاحظت أن البعض يعتقد بأن مفهوم سيادة القانون يكمن في التزام تطبيقه طوعياً، انطلاقاً من الإيمان بأهمية ذلك للمحافظة على المجتمع من جميع أشكال الانحراف والفساد ولتطويره، وأن هذا المفهوم يترسخ أساساً أو بدايةً في البيت في ثقافة أفراد الأسرة وسلوكهم الذي ينعكس بعد ذلك في التفاعل مع المجتمع، وأيضاً في إفراز قيادات تؤمن بهذه الثقافة. وهكذا يصلح المجتمع، بمعنى أن الإنسان يجب عليه أولاً تنشئة نفسه على هذا الفكر وهذا الوعي، وستكون النتيجة الحتمية بنظر هؤلاء هي إفراز قيادات نظيفة تحترم القانون وتعمل بكل أمانة على تطوير للمجتمع وازدهاره.

هذا كلام سليم إلى حد كبير ويمكن إسقاطه وتطبيقه في المجتمعات الصغيرة ذات الحياة غير المعقدة، فالشعب في هذه المجتمعات لا يزال تردعه الأخلاق والقيم التي تلقاها في البيت. ولكن في المجتمعات الكبيرة والمتمدنة والمادية والتي تعددت فيها أوجه الحياة ومغرياتها واهتمامات الناس، وصار الناس فيها لا يعرفون سكان الحي ولا حتى من يجاورهم في البيت، وطغت فيها ثقافة الفرد والخصوصية على كل شيء، فصار الفرد لا يأبه بمخالفة قواعد الأخلاق، ولا بالقيم الأصيلة التي ينادي بها الضمير الإنساني، وكل ذلك بغية وصوله السريع إلى مكتسب ما أو ربح أو علاوة أو تبوّؤ منصب أو جمع ثروة أو غير ذلك من مغريات الحياة، غير آبهٍ بأخيه أو بجاره أو زميله في العمل أو بمواطني مجتمعه أو ببلده ككل. وهنا نسأل: من يردع هؤلاء ويحمي المجتمع من الانحراف إلى شريعة الغاب وانعكاساتها السلبية على كل جوانب الحياة في المجتمع الكبير المتمدن؟
نقول دون شك، إنه مبدأ المحاسبة والمساءلة، هذا المبدأ الذي هو أساس قيام دولة القانون فالمحاسبة والمساءلة تعني توقيع العقاب على من خالف القانون. والعقوبة دائماً تحتوي على شقين مهمين: أولهما: الجزاء الذي يناله من خالف القانون أو اعتدى على حقوق الآخرين، والشق الثاني وهو الأهم والمتمثل بالردع، فتوقيع الجزاء يردع من يقع عليه ويردع كذلك كل من علم بهذه العقوبة التي نالها مرتكب هذا الجرم. وهنا تتجلى أهمية المحاسبة التي توقعها السلطة التي تهتم في المجتمعات الكبيرة بتطبيق القانون وحماية المجتمع ممن تسول له نفسه مخالفة القوانين فيه.

ولكي يأخذ مبدأ المحاسبة دوره في المجتمع ودولة القانون يجب أن نضمن له استقلال القضاء استقلالاً تاماً عن أي تأثير ومن أي تدخل في شؤونه، إضافة إلى الإيمان بمبدأ سيادة القانون والمساواة أمامه لدى رأس السلطة والحكومة، اللذان يقع عليهما عبء قيادة المجتمع، ويمثلان القدوة ومحل ثقة الشعب الذي منحهما هذه الثقة عبر الانتخابات. كما يجب أن يكون للشعب قانون انتخاب عادل يسمح لهذا الشعب بمحاسبة ممثليه سياسياً عبر الإعلام وعبر صندوق الانتخاب وعبر القضاء أيضاً إذا لزم الأمر.

وفي نظامنا شبه الرئاسي لا بد أن يكون رئيس الجمهورية مؤمناً بالمساواة ومبدأ سيادة القانون ومبدأ استقلال القضاء ويحميه، وأن يكون له من الحزم والإرادة القدر الكافي لرفض المحسوبيّات، وذلك لتأمين عمل مؤسسات الدولة بما يخدم فكرة ترسيخ دولة القانون والمؤسسات لما فيه خير للأمة…

يتبع

العدد 1105 - 01/5/2024